يصير الشارع مأوى، والرصيف سكنًا لمن عصفت بهم الظروف المعيشية؛ ففي مدن اليمن، تجد عشرات المشردين عند براميل المخلفات، وعلى أرصفة الشوارع، وعند مداخل الأحياء.. منذ سبعة أعوام، والحاج عبدالرحيم، 68 عامًا يركن إحدى زوايا حي المركزي، وسط مدينة تعز، فالرصيف منزله، والأغطية الممزقة لحافه البسيط، وذلك لا يقيه حرارة الشمس أو برد الشتاء.
في الحي، كان يعرف بالطبيب الشَريد، تبعًا لتخرجه من كلية الطب البشري بروسيا، وبتخصص مخ وأعصاب، بحسب حديث أحد الأهالي، لكنه عاد إلى صنعاء قاصدًا تقديم الخدمة للشعب والوطن، وهناك تعرض لحادث مروري، تسبب له بصدمة نفسية، انتقل بعدها إلى تعز، حيث تقيم أسرته، إلا أنه فضل البقاء في الشارع، والعيش شريدًا.
يروي ماجد مسعد، من أبناء المنطقة: "ذات يوم، كنت أتحدث مع صديقي أسامه، الذي يشكو من ألم ظهره.. كان الرجل بجوارنا، يسمعنا، فقد اعتدنا الحديث معه، أو بجانبه.. فجأة عبدالرحيم سأل أسامه عن أعراض أخرى، ثم قال سأكتب لك علاج، هات ورقة وقلم.. كتب صنفين من العلاج، ذهبنا إلى الصيدلية وسألنا عن العلاج المكتوب، وبالفعل وجدناه يعالج أعصاب الظهر".
تناوبت الأوبئة والأمراض على جسد عبدالرحيم، من الكوليرا إلى الظنك إلى الحمى الفيروسية، التي أنهكت جسد الحاج، وجعلته أكثر هزلًا ومعاناة، ناهيك عن فصول من المأساة تحل بهذا الرجل مع حلول مواسم الأمطار، وتحول مكان نومه إلى بركة صغيرة من المياه والطين.
ومع تفشي فيروس كورونا، تضاعفت المخاطر على الرجل، خصوصا أن المشردين هم أكثر الفئات قربًا من الوباء، تبعًا لحياتهم المهدورة، ومعايشتهم للمسببات، دون الإدراك بالخطر.. يؤكد عاقل الحي، محمد الحداد: "كان عبدالرحيم دائمًا مريض، وعندما جاء كورونا، بموجته الأولى، ساءت صحته، وتدهورت حالته، استمرت معاناته لمدة أسبوع.. يوم وفاته، كان يتوجع بالليل، خرجنا نشوفه، وهو ينازع، طلب ماء، شرب وتوفى".
ويضيف: "سبعة أعوام وهو في ذات المكان، لم يعترض طريق أحد، كان مشردًا هادئًا، إذا الأهالي جابوا له أكل يأكل، أو يذهب أمام أي مطعم ينتظر يجيبوا له أكل، ويرجع مكانه".. وأشار في حديثه: "كان ينقصه شيئا من الاهتمام، كي يستعيد عافيته، لكن لا نعلم أين أسرته، وأقاربه.. بقى في الحي حتى فارق حياته".
ساكنو الرصيف
عشرات المشردين في اليمن، سقطوا ضحايا فيروس كورونا، نتيجة بقائهم أمام انتشار الوباء، بعيدين عن اهتمام السلطات الحكومية، والمنظمات الإغاثية، ناهيك عن حياتهم المكشوفة، وتنقلاتهم الدائمة.
محمد حميد، ثلاثيني العمر لم يمتنع عن مهنته اليومية، في تغسيل السيارات، ومخالطة الناس، بمبرر البحث عن لقمة العيش لسد رمقه، وضمان بقاءه، فالجائحة لا تشكل فارقًا في حياة رجل اعتاد التشرد منذ سنوات، كما يقول.
يعيش محمد في مخيم صغير يقع بالقرب من جسر رئيسي لمجرى السيول، في منطقة السعيد، وسط تعز.. يجاوره تكدس للمخلفات، التي تحيل مسكنه، إلى مكان غير مرغوب، وسط عملية التكدس المستمرة، وتسلل الأدخنة الناتجة عن إحراق النفايات، وهذا ما يجعل الرجل عرضة للعديد من الأوبئة والأمراض المزمنة.
يفيد محمد: "ظروف المعيشة والتشرد أجبرتنا على العيش بجوار السائلة، نصحونا في زمن كورونا أن أنتقل، خوفًا من العدوى، لكن لم أجد البديل، بقيت في هذا المخيم، وسارت الأيام بسلام، جاء الدور عليّ وأصبتُ بالفيروس، لكن لطف الله وإرادته بالنجاة".
هكذا يجبر التشرد الكثير من هؤلاء على البقاء في محيط مليء بالمخاطر، والتعايش مع المسببات والأمراض، بدون وسائل الحماية، أو أدوات الوقاية.. الأمر الذي جعل أفراد هذه الفئة في مواجهة مباشرة مع الموت، خصوصا مع تدهور حالتهم الصحية والنفسية، وفقدان المأوى.
تسيب مجتمعي، واهمال حكومي
مشردون بلا حقوق
وحدهم المشردون، ومرضى الشوارع في اليمن، لا يحصلون على رعاية صحية كأي مريض، فهم منفيون خارج دائرة اهتمام الجهات المسؤولة، والمنظمات المعنية، والمجتمع المحلي على حد سواء، إذ يشكلون فئة اجتماعية تعيش في الهامش، يحيون قدرما استطاعوا، ويموتون دون علم الآخرين؛ فالتشرد والمبيت بالشارع، لم يعد محصورًا على النفسانيين، إنما ملاذ المهمشين، وملجأ الفقراء والنازحين الهاربين من الحرب إلى العراء.
منذ ما يزيد عن سبع سنوات، وفئة المشردين تتسع بفعل الحرب، فمَن فقد راتبه أو منزله صار شريدًا، إضافة إلى الفقر والتراكمات التي يتعرض لها الفرد، وتقوده إلى الشعور بالدونية والاكتئاب، واحتقار الذات، ثم فقدان القدرة على التمييز وعدم الاستقرار، وهذا ما يفسر التواجد الكبير للمشردين في شوارع المدن اليمنية.
وأنت تمر في شوارع تعز، ستصادف العشرات من المشردين، ينامون في الأرصفة، أو يتجولون في الأسواق، دون أدنى مقومات الحياة.. وبالمقابل تعجز إدارة مستشفى الأمراض العصبية والنفسية، التي تعاني من شحة التمويل، وقلة الإمكانات، عن استيعاب غالبية مشردي المدينة، الذين يفتقرون للرعاية اللازمة من قبل الدولة.
وبحسب قانونيين، فإن الدستور اليمني يكفل حقوق هذه الفئة، فقانون الرعاية الاجتماعية يضمن حصول المشردين على الرعاية النفسية والاجتماعية، لكن الحكومات اليمنية تخلت عن هذه المسؤولية منذ أعوام.
شكل المشردون في تعز، جزءًا من المشكلة، وأحد العوامل التي ساعدت في توسيع دائرة فيروس كورونا، تبعًا لشهادات الأطباء، فإن تواجد المشردين وسط المدينة، وفي الأماكن المزدحمة، جعلهم أكثر عرضة للحمل والإصابة بالوباء، فمن لم يمت، تحول إلى ناقل للمرض، يوزعه على المارة، والقريبين في البيئة المحيطة.
هكذا لا يزال المشردون في اليمن، ضمن قائمة المنسيين من الرعاية الاجتماعية والصحية، فالسلطات الحكومية تخلت عن مسؤوليتها تجاههم منذ زمن، والمنظمات الدولية، والبرامج الأممية لم تستهدف هذه الفئة، فلا الدولة تمنحهم حقوقهم، ولا المجتمع يرعاهم.
"تم نشر هذه التقرير بدعم من JHR/JDH صحفيون من أجل حقوق الإنسان، والشؤون العالمية في كندا"