حرائق الغابات تمتحن إردوغان.. و"خطاب التخوين" يغذي الانقسام

 

 

تعيش تركيا أياما صعبة منذ الثامن والعشرين من شهر يوليو الماضي، فبينما تستمر الحرائق في التهام الغابات بالولايات الجنوبية، تطفو على السطح حالة متصاعدة من الانقسام الداخلي والاستقطاب السياسي.

 

ويرى محللون وباحثون أتراك، تحدث إليهم موقع "الحرة"، أن أسباب تلك الحالة ترتبط بخطاب الحكومة "التخويني"، وما يقابله من خطاب مضاد لأحزاب المعارضة، التي دخلت على الخط منذ اليوم الأول لاندلاع حرائق وصفت بأنها "الأسوأ على الإطلاق".

 

وأسفرت الحرائق حتى الآن عن مقتل 9 مدنيين، وبلغ مجموعها أكثر من 154 حريقا في أكثر من 30 ولاية، كما أصيب 916 شخصا، لا يزال 50 منهم يتلقون العلاج.

 

كما دمرت مئات الهكتارات من الغابات والقرى، وبات المئات من السكان دون مأوى، بعدما فقدوا أرزاقهم وممتلكاتهم، وحيواناتهم التي حرقتها ألسنة اللهب.

 

ورغم أن حالة الانقسام في الداخل التركي ليست بجديدة، إلا أنها أخذت أبعادا غير مسبوقة، من حيث حجم الانتقاد الذي تعرضت له الحكومة وإردوغان من جهة، والتفاعل الكبير على وسائل الإعلام التركية، ومنصات التواصل الاجتماعي.

 

وتقول الحكومة إنها تواصل إخماد الحرائق عبر "جهود مستمرة"، وأعلنت فتح تحقيقات للكشف عن أسبابها، في وقت اتهم صحفيون وإعلاميون مقربون منها "حزب العمال الكردستاني" بتدبيرها.

 

وفي المقابل صعّدت أحزاب المعارضة لهجتها، متهمة الحكومة بالتقصير في عمليات الاستجابة، وانتقدت النقص الكبير في آليات الإخماد، وأثارت خصوصا مسألة الطائرات التابعة لمؤسسة الطيران التركية "THK"، التي قيل إنها لم تستخدم حتى الآن، لأسباب "مقصودة وسياسية".

 

"الجدل قائم"

ولم يقتصر ذلك الجدل ضمن إطار السياسيين، بل امتد إلى الحديث اليومي للمواطنين الأتراك، الذين تفاعلوا خلال الأيام الماضية عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، معبرين عن غضبهم من الحالة السائدة.

 

وتصدر "الترند" التركي "هاشتاغات"، طالبت إحداها بـ"استقالة الرئيس إردوغان"، بينما دعت الأخرى إلى طلب المساعدة من دول أخرى (ساعدوا تركيا)، الأمر الذي اعتبرته الحكومة بمثابة "خيانة" وتبعية لـ"أجندات خارجية" تحرك حملات النقد.

 

وفي غضون ذلك أعلن مكتب المدعي العام في أنقرة، الخميس، فتح تحقيق بشأن المنشورات التي ظهرت تحت علامة "ساعدوا تركيا"، معتبرا أنها تشكل "عنصرا من عناصر الجريمة".

 

وجاء في بيان المدعي العام أنه تم تحديد من شاركوا تلك المنشورات، الذين كانوا يحاولون خلق حالة من "الخوف والذعر" و"إهانة الحكومة"، بحسب تعبيره.

 

ورغم أن كبار السياسيين الأتراك، وعلى رأسهم إردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، زاروا مناطق الحرائق في خطوة "تضامنية"، إلا أن ذلك لم يبدد حالة الغضب السائدة، التي باتت تتصاعد مع التسجيلات المصورة التي يتناقلها المستخدمون بين الساعة والأخرى.

 

ومن أبرز التسجيلات المصورة، التي دفعت بالغضب إلى ذروته، واحدا ظهر فيه إردوغان يرمي أكياس الشاي على المتضررين.

 

واعتبر مواطنون وسياسيون معارضون ذلك بمثابة "الإهانة"، رغم أن هذه الطريقة باتت عادة يتبعها الرئيس التركي بمناسبات وتجمعات عدة.

 

"إلى أزمة أعمق"

وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الحكومة التركية تعاني من تراجع شعبيتها إلى أدنى مستوى منذ توليها السلطة عام 2002، وسط ارتفاع التضخم وانتشار البطالة.

 

وحتى الآن تركّز الحكومة والمقربون منها على إلقاء اللوم على "جهات خارجية" بمواجهة السخط المتزايد بشأن الحرائق.

 

وقبل أيام قال مسؤول الإعلام في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون، إن حملة "ساعدوا تركيا" تم تنظيمها من قبل "كيان واحد"، وكان هدفها تقديم تركيا كدولة ضعيفة، مؤكدا أن بلاده لا تحتاج إلى أي مساعدة، وتكافح بجهود كبيرة لإخماد الحرائق.

 

وانتقد ألتون الحملات التي انطلقت ضد الحكومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، علما بأن تلك الحملات ظهرت في مقابلها حملات أخرى مضادة، أطلقها صحفيون وإعلاميون موالون للحزب الحاكم، هو الأمر الذي عزز أجواء الانقسام.

 

ويرى الباحث في الشأن التركي، طه عودة أوغلو، أن كارثة حرائق الغابات أثارت غضبا كبيرا على الحكومة، بينما لا يتبقى سوى أقل من عامين على موعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 2023.

 

آلية مواجهة الحرائق تثير انتقادات

ويقول عودة أوغلو في تصريحات لموقع "الحرة": "رغم التحركات السريعة لحكومة إردوغان حيال الكارثة، إلا أننا لو نظرنا إلى القضية من زاوية أخرى سنستشف أن الكارثة كانت محاولة جديدة من قبل المعارضة، ممثلة بحزب الشعب الجمهوري، لزيادة الضغوط على الحكومة وإحراجها أمام المواطنين".

 

ويرى الباحث التركي أن إردوغان ما زال ممسكا بزمام الأمور، لكن المشكلات المتلاحقة تشير إلى أن تركيا في طريقها إلى "أزمة أعمق" يصعب على الحكومة الخروج منها.

 

ويفاقم هذه الصعوبة، بحسب ذات المتحدث، "حالة الاستقطاب الداخلي وتراكم الأزمات على المستويات الخارجية والداخلية، إذ يبدو أن الخصم (المعارضة التركية) يحاول حاليا استنهاض نفسه للانقضاض على الحكومة".

 

"أسماء بارزة على الخط"

ورغم اعتبار الجدل القائم والانقسام دائرا بين قطبين، الأول من المؤيدين للحزب الحاكم والثاني من المعارضين له، إلا أن الأمر تعدى ذلك إلى مسارات أخرى، إذ دخلت على الخط أسماء بارزة، تحظى بثقل كبير في المجتمع التركي.

 

من بين هؤلاء، بولنت أرينتش، الحليف التاريخي لإردوغان، الذي شارك بيانا مكتوبا، الأربعاء، عبر "تويتر"، تضمن اقتراحاته وانتقاداته في ما يتعلق بحرائق الغابات في أكثر من 30 مقاطعة.

 

وانتقد أرينتش، في البيان الذي اطلع عليه موقع "الحرة"، أساليب التواصل والإعلانات الحكومية بشأن مكافحة حرائق الغابات قائلا "التصريحات المتضاربة للسلطات والمناقشات بشأن الطائرات وآليات إطفاء الحرائق تظهر مخاوف الجمهور وأن البُعد الإعلامي في مكافحة الكوارث كان ضعيفا".

 

كما اعتبر أرينتش أن على إردوغان تعيين هيئة تفتيش حكومية بشأن ما جرى، مشيرا إلى أنه: "يجب إخماد النيران بطريقة لا تصنع علامات استفهام".

 

وكان أرينتش قدم استقالته كمستشار رئاسي في نوفمبر 2020 بعدما تعرض لهجوم عنيف بسبب مطالبته بالإفراج عن معارضين معتقلين، وذلك في أعقاب إعلان إردوغان عن إصلاحات قضائية.

 

"إلى شطرين"

ومن وجهة نظر الباحث التركي، هشام جوناي فإن حالة الاستقطاب الداخلي في تركيا ليست جديدة، لكنها برزت على السطح بعد كارثة الحرائق.

 

ويقول في حديث لموقع "الحرة": "تركيا منقسمة إلى شطرين منذ زمن بعيد. العدالة والتنمية يحصل على 50 بالمئة من الشارع التركي، بينما في خطابه النسبة الباقية على أنها معادية للإسلام والمبادئ والقيم الإسلامية".

 

ووفق جوناي، لا يستهدف خطاب إردوغان، في أغلب الأحوال، جميع طوائف المجتمع التركي، وإنما "يستهدف فقط الناخبين المصوتين له".

 

واعتبر الباحث التركي أن ردود الأفعال الغاضبة حاليا لها مبررات، بينها الفشل في إخماد الحرائق طوال 10 أيام، في وقت أكد مسؤولون حكوميون أن البلاد لا تملك طائرات لإخماد للحرائق.

 

ويتابع جوناي: "الكثير يتساءلون لماذا لا تملك تركيا طائرات من هذا النوع؟ لماذا لم يتم التحضير واتخاذ تدابير قبل أن تحدث (الكارثة)؟

 

وتمتد الغابات على مساحات كبيرة في تركيا، وقد شهدت قبل عامين حرائق واسعة، وقال حينها وزير الغابات والزراعة إن بلاده لا تملك تلك الطائرات المذكورة.

 

 ويتابع جوناي: "تطرح الأسئلة بصوت مرتفع، لكن الرد يأتي من الحكومة أن هذه الجهات تقلل من شأن تركيا، وتحاول إجبارها على المعونات الخارجية. هذا الخطاب دائما يجعل المنتقد والشخص الذي يبحث عن الحقيقة متعاونا مع جهات خارجية".

 

"استثمار ما يجري"

تشير جميع المعطيات المفروضة إلى أن حالة الاستقطاب والجدل السياسي لن تنتهي بسهولة في الداخل التركي. ويرتبط ذلك بمحاولات أحزاب المعارضة استثمار أي أزمة أو كارثة لمجابهة الحكومة، في خطوة للاستعداد للانتخابات المقبلة في 2023.

 

وخلال الأيام التي سبقت اندلاع الحرائق ساد جدل بشأن ملف اللاجئين في البلاد، والآن يدور جدل بشأن اللاجئين الأفغان تحديدا، ودخولهم بشكل غير مسبوق، عبر طرق التهريب مع إيران.

 

وقبل ذلك تصاعد جدل كبير في الأشهر السابقة، بسبب قضية "زعيم المافيا" التركي، سادات بكر، والفيديوهات التي نشرها، وقال إنها تكشف ملفات الفساد داخل الحكومة.

 

ويقول الباحث التركي، طه عودة أوغلو: "رغم أن حزب العدالة والتنمية الحاكم تفوق على خصومه بفارق كبير في الانتخابات السابقة إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن المعركة الرئاسية ستكون على نفس الشاكلة".

 

ويوضح: "من المنتظر أن تكون أكثر صعوبة، نظرا لاختلاف المعطيات والظروف الراهنة في البلاد".

 

ويضيف الباحث أن "كارثة حرائق الغابات اختبار حقيقي لشعبية إردوغان، الذي يواجه أزمات داخلية عدة تهدد مستقبله، عدا عن سلسلة من المشكلات الخارجية".

 

ومن جانبه يشير الباحث التركي، هشام جوناي إلى أن "الخطاب التخويني الذي تطرحه الحكومة يدفع تركيا إلى استقطاب لا يمكن أن يوحد الصفوف. خاصة عندما يخون طرف طرفا آخرا".

 

ويوضح جوناي أن الخطاب المذكور يشمل بعض الأسماء التي كانت في "العدالة والتنمية" سابقا، مثل الرئيس السابق، عبد الله غل، أحمد داوود أوغلو، علي باباجان.

 

ويتابع: "كل هذه الأسماء عندما بدأت بالانتقاد تم اتهامها بالخيانة، الأمر الذي أجبرها على الاندفاع إلى صفوف المعارضة.. حتى في المحن هناك اتهامات بالتآمر والخيانة".