تحدث زعيم المليشيات الحوثية في خطاب أخير وأسهب عن الطغيان، وكأنه يقرأ في دفتر عصابته التي تجسد أسوأ وألعن مظاهر وتجليات الطغيان الذي عرفه اليمنيون يوما. هذا الجهد المركز للأستاذ فيصل الصوفي والمعاد يستجمع ملامح صورة الطغيان من متفرق يوميات العصابة الكهنوتية في مدى ستة أعوام فحسب.
هل الانتهاكات التي تقوم بها العصابة الحوثية، والتي سنذكر قليلاً منها، استناداً إلى مصادر العصابة كانت قائمة، أو كان يمكن القبول بها في عهد الرئيس علي عبد الله صالح؟
في مقال نشرناه في مكان آخر تكلمنا عن جناية العصابة الحوثية على التعليم، ووضعنا الحالة التعليمية في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، في مقابلة الحالة البائسة للتعليم في عهد العصابة الحوثية.. دعونا الآن نقوم بنفس الأمر مع حالة الحريات المدنية والسياسية.
الحريات المدنية التي نعنيها هنا هي حق المواطن في أن يتصرف كإنسان خلقه الله حراً، دون أن ينتج عن ممارسته لهذه الحرية إيذاء للآخرين.. وإن شئت مثالاً للحريات المدنية، فهي ببساطة حق المواطن أن يعبر عن رأيه.. أن يتظاهر في الشارع العام.. أن يرتدي ما شاء من الثياب.. أن يعبد الله وفقاً للمذهب الذي نشأ عليه كزيدي أو شافعي أو مالكي، أو حنبلي، أو إسماعيلي أو سلفي أو صوفي.
أما الحريات السياسية فهي، مثلاً، حقك في المشاركة في الانتخابات والإدلاء بصوتك لاختيار أحد المرشحين ليصبح رئيسا لبلادك، وفي اختيار الحزب الذي يدير حكومتك، وحقك في اختيار من يمثلك في مجلس النواب، وفي مجالس السلطة المحلية.. ومن الحريات السياسية أيضا حقك في الانتماء لحزب معين لو شئت ذلك، وحقك في تأسيس حزب لو شئت ذلك.. والاعتراف أن الخلاف بين الناس أمر وارد.. كما أن الحريات السياسية تقتضي الاعتراف بتعدد الأحزاب والجماعات السياسية، وتعدد وسائل الصحافة والإعلام والنشر.
دستور الجمهورية اليمنية، وقوانين مثل: قانون الأحزاب، قانون الصحافة، القانون المدني، قانون العقوبات... وغيرها، تقرر احترام المعتقد الديني، وضمان حق المواطن في أن يتصرف كفرد حر، وضمان حق المواطن في التجمع والتجمهر والانتماء لنقابة مهنية مثل نقابة المعلمين أو نقابة الأطباء أو نقابة العمال.. ويقر الدستور اليمني تعدد الأحزاب السياسية، والتعدد المذهبي، وتعدد واختلاف الآراء، والقوانين اليمنية بدورها تقر هذه الحقوق وتنظم ممارستها..
منذ العام 1990 على الأقل أصبحت هذه الحقوق أو الحريات مصونة.. لم تكن هناك أي قيود على الحريات العامة والحريات الشخصية باستثناء تبديل الدين أو ما يعرف بالردة. وخلال الفترة الزمنية 1990- 2010، لم تمس هذه الحريات إلا في حالات استثنائية، وبناءً على نص قانوني وحكم قضائي.. وعلى المستوى السياسي شاهدت اليمن دورات انتخابية نيابية.. انتخابات رئاسية.. انتخابات محلية.. منذ عام 1990 إلى عام 2014 كانت هناك سلطة، وفي مقابلها كانت تجد معارضة..
أما إذا جئنا إلى حالة الحريات العامة سوف يطول الحديث.. لذلك اسألوا وفتشوا واقرأوا، هل خلال هذه الفترة الزمنية أكره مواطن على ارتداء ملابس معينة، هل حدث اعتداء على مواطن لأنه زيدي أو شافعي، هل فرض على شافعي مثلا أن يتحول إلى زيدي أو حنفي، هل في بطاقتك الشخصية أو جواز سفرك أو البطاقة العائلية ما يدل على أنك حنفي أو شيعي أو مالكي أو زيدي أو حنبلي؟ لا شيء من ذلك البتة، فالمذاهب ظلت محل احترام، ولم يحدث أن تعرض زيدي أو شافعي للإكراه كي يتحول إلى حنفي مثلا.. هل أغلق دكان أو مستودع أو معرض بسبب نوعية الملابس أو الأكلات التي يقدمها، أو بسبب اسم المتجر، أو بسبب اللوحات الفنية؟ أو أو أو.. لم يحدث شيء من ذلك إطلاقاً؟ وخلال هذه الفترة من يدلنا على شاهد واحد للتدخل في شئون شخصية مثل طريقتك في ترتيب شعر رأسك، أو مثل أن فلانة تضرب لأنها جعلت لها نطاقا في خصرها؟ لم يحدث مثل هذا إطلاقاً.. وهل سمعتم في يوم من الأيام أن الحكومة قالت لطلاب وطالبات الجامعة عليكم ارتداء زي معين، وأن تنظيم احتفال بمناسبة التخرج من الجامعة ممنوع؟ لم يحصل شيء من ذلك.
لكن بعد أن سيطرت العصابة الحوثية السلطة فقد اختلف تمام الاختلاف.. فقد انتهكت العصابة الحوثية حقوق الناس في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية.. وكلمة انتهاك تعني القيام بفعل ضد حق يحميه القانون.. مثلاً القانون ينص على أن من حق المواطن أن يعتنق مذهباً معيناً إذا شاء ذلك، فإذا منعته من هذا أو فرضت عليه رأياً معيناً تكون قد انتهكت الحق، أي أقدمت على جريمة.. سوف نورد في ما يلي نماذج للاستشهاد على قولنا إن الجماعة الحوثية انتهكت حرية المعتقد الديني.. فلنأخذ صلاة التراويح مثالاً.. تزعم العصابة الحوثية أن صلاة التراويح ليست من الإسلام، وأن الخليفة عمر بن الخطاب هو أول من أقر هذه الشعيرة التي ابتدعها بعض الصحابة، وبالتالي عملت العصابة الحوثية على مضايقة الحنفيين والشوافع وكل السنيين، بغية إجبارهم على ترك هذه الصلاة.. ونذكر هنا أن التراويح ليست من وضع الخليفة عمر، إذ قد كانت سائدة زمن النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ما قام به خليفته الثالث عمر بن الخطاب أنه أول من جمع الناس على قارئ واحد فيها، فقبل ذلك كان المسلمون يصلونها منفردين، واستمر الحال كما هو عليه إلى سنة 14 هجرية.. بعد ذلك استقرّ حكم التراويح الفقهي -عند علماء أهل السُّنة- على أنها سُنّة وليست فرْضا.. لقد ظهرت آراء أنكرت شرعيتها باعتبارها بدعة عُمَرية كما ترى طوائف الشيعة باستثناء بعض أئمة الزيدية.. فأن يوجد خلاف حول شرعية هذه الصلاة، أمر عادي، فقد اختلف الفقهاء حل قضايا كبيرة.. ما يعنينا هنا هو حق المؤمن في أداء ما يومن به.. لكن العصابة الحوثية لم تحترم هذا المبدأ.. وهناك وقائع كثيرة تبين تمسك العصابة بمنع صلاة التراويح، وصل بعض منها حد ممارسة العنف المؤدي للموت كما حدث في أوائل شهر مايو2021 لإمام مسجد في قرية راود بمحافظة المحويت يدعى ناصر محمد عبده زايد أثناء إمامة صلاة التراويح.. ففي ذلك اليوم قرر المشرف الحوثي في القرية منصور العزي (المكنى بأبي بدر الوائلي) إكراه ناصر محمد عبده على تأخير موعد أذان المغرب ووقت الإفطار إلى حين تظهر النجوم، وفقاً لأحد الأقوال في المذهب الزيدي، لكن إمام ومؤذن المسجد تمسك بالتوقيت الشائع وهو غروب الشمس وظهور الشفق الأحمر، ولما يئس المشرف من المحاولة ذهب ثم رجع وقت صلاة العشاء إلى المسجد، وحين شرع ناصر محمد عبده في إمامة صلاة التراويح قام المشرف بالاعتداء عليه وانتزع مفاتيح أبواب المسجد بالقوة، وحاول الإمام المسن (90 عاما) الدفاع عن نفسه، لكن المشرف أوقعه أرضا، وأصيب بالكمد وبعد أيام قليلة أمضاها في المستشفى فارق الحياة، وبعد ذلك أمكن للمشرف منع إقامة صلاة التراويح.
ومعروف هو تسييس العصابة الحوثية للمساجد والجوامع، بداية من استغلالها لرفع الشعار الخاص بالجماعة (الصرخة)، وانتهاء بإذاعة خطب ومحاضرات زعيمها عبد الملك الحوثي مرورا بخطب الجمعة والدروس اليومية التي تكرس عادة للدعاية السياسية لمصلحة الجماعة.. وثمة انتهاك آخر يتمثل في التضييق على السلفيين، فقد أغلقت العصابة الحوثية مراكزهم التعليمية، واعتقلت العشرات منهم.
وحري بالإشارة هنا ما قامت به العصابة الحوثية ضد فئة من المواطنين لمجرد أنهم يدينون بالدين الموسوي.. فمنذ فجر الإسلام ظل اليمنيون الذين يدينون لله بالدين الموسوي أو اليهودي، موضع احترام، ومنذ ثورة 26 سبتمبر 1962 وإلى عام 2004 كانوا متساوين في جميع الحقوق مع سائر المواطنين الزيود والشوافع والاسماعيليين.. وضع هؤلاء المواطنين اختلف شيئا فشيئا حسب نفوذ الجماعة الحوثية، فأثناء تمردها على الدولة عام 2004 عصفت بمصائر اليهود في عزلة آل سالم بمحافظة صعدة، حيث قتلت بعضا منهم، وخيرت البقية إما الإسلام، وإما الجلاء، وإما القتل، وبالفعل طردوا من ديارهم، واضطرت الحكومة في ذلك الوقت إلى إيواء المشردين في المدينة السياحية بالعاصمة صنعاء.. ولما اجتاحت ميليشيا الجماعة الحوثية محافظة عمران طردت المواطنين اليهود من بلدة ريدة، ولما سيطرت على العاصمة صنعاء اضطهدت اليهود الذين أوتهم الحكومة، وبدأت ترحيلهم إلى إسرائيل دفعة بعد أخرى، كان آخرها دفعة مكونة من ثلاث أسر يهودية سفرت إلى مدينة عدن لكي ينقلها مسئول يهودي إلى إسرائيل.. لكن الجماعة الحوثية ما تزال تساوم دولة إسرائيل بمصير يهودي يمني مشهور عالميا يدعى ليفي سالم موسى سالم مرحبي، وهو من يهود آل سالم- ولد عام 1987 في كتاف البقع بمحافظة صعدة.. والأمر الغريب أن الجماعة الحوثية ادعت في أبريل 2018، أن مواطنين يمنيين يهود تلقوا تدريبات عسكرية على أيدي ضباط في التحالف العربي لدعم الشرعية، وأصبحوا يحاربون في صفوف جيش الرئيس هادي، واستشهدت الجماعة الحوثية لذلك بدليل اعتبرته مهما، ذلك الدليل هو أنهم عثروا في جيب أحد المقاتلين على بطاقة شخصية باسم ليفي سالم موسى سالم مرحبي، بينما هي تحتجز الشخص نفسه داخل سجن في صنعاء منذ أربع سنوات!
وفرضت العصابة الحوثية ثقافتها الخاصة بشتى الوسائل.. الجانب الديني هو أكثر الجوانب حساسية كما هو معروف.. والسائد في اليمن منذ القدم ثلاثة مذاهب رئيسية هي: المذهب الزيدي والمذهب الشافعي والمذهب الإسماعيلي، وهناك قليل من السكان في بعض المناطق يتبعون المذهب الحنفي، وكل أتباع مذهب يعتقدون أن مذهبهم صحيح، ولهذا بقيت المذاهب حية إلى اليوم.. ورغم اختلاف هذه المذاهب فإن المواطنين اليمنيين يتعايشون مع بعضهم، ولم يؤد اختلاف المذاهب إلى أي نزاع، ولم يحدث -ولو مرة واحدة- أن قامت جماعة أو سلطة بفرض مذهبها أو ثقافتها الخاصة على الآخرين.. لكن الجماعة الحوثية انتهكت هذا المبدأ، وصارت تفرض على الآخرين ثقافتها الخاصة، حيث باتت محاضرات حسين بدر الدين الحوثي تدرس في مراكز تعليمية، بل وفي معسكرات الجيش والشرطة في المناطق التي تسيطر عليها.. ومدت عملية التشييع إلى مناطق يدين سكانها لله وفقا للمذهب الشافعي، أو المذهب الحنفي، مثل الحديدة.. وأقرب مثال لذلك هو أن الجماعة نفذت في أوائل العام 2021 حملة جديدة للتشيع، تحت لافتة (التوعية بالمسيرة القرآنية)، بعد اختتام البرنامج الثقافي للعام السابق الذي كان أبرز المحاضرين فيه زينبية من صعدة تكنى أم الأحرار. في ذلك التاريخ استضافت زينبيات الجماعة مثقفات من صعدة مثل القيادية النسوية أم نصر، فهذه وغيرها استقدمن إلى الحديدة لتفعيل النشاط الثقافي في المدينة وبعض المديريات مثل مديرية الميناء التي كانت مدرسة عمار بن ياسر أهم مقرات ذلك النشاط، ومثل مديريات ريفية كمديرية المراوعة التي قام المشرف الحوثي عليها -يدعى أبو مجد الدين- بتكليف سناء درويش بإعداد جدول زمني للأنشطة الثقافية التي ستنفذها المحاضرات الحوثيات في قرى الكوكبية والدوم والشعراء.. وعادة يتضمن النشاط الثقافي خليطاً من التشيع والفكر السلالي الذي تنضح به محاضرات حسين بدر الدين الحوثي، وفي هذه الأثناء يتم حث النساء على تشجيع أولادهن للالتحاق بجبهات القتال.