إيران: رسائل مجزرة العام 1988

الأخبار I منوعات

 

 

يمكن لرجال القانون أن يتجادلوا حول طبيعة التوصيف المناسب للمجزرة التي ارتكبها نظام الولي الفقيه في إيران بحق أكثر من 30 ألفا من أعضاء منظمة “مجاهدي خلق” في العام 1988، والتي عادت لتلاحق رئيس إيران الجديد إبراهيم رئيسي الذي كان عضوا في “لجنة الموت” التي أشرفت على إعدام كل هؤلاء الضحايا في غضون أيام معدودة.

 

رجال القانون يمكن يمكنهم أن ينظروا في ما إذا كان وصفها بـ”المجزرة” أو “الجريمة ضد الإنسانية” أو “جريمة حرب” هو الوصف الأصوب، وما إذا كانت تتطابق أفعالها مع التعريفات التي يحددها القانون الدولي أو المواثيق الدولية ذات الصلة.

 

رجال القانون يمكنهم أن يدققوا أيضا في الكثير من الوقائع والأدلة والشهادات لكي يكونوا على يقين تام من أن حكمهم يكتسب المصداقية الكافية لملاحقة المجرمين ومحاكمتهم. ولكن ما من شيء أكثر قوة، ولا أكثر وضوحا، من الرسائل التي تم تبادلها بين أركان النظام في ذلك الوقت لمعرفة الطبيعة الوحشية التي مورست فيها تلك الجريمة.

 

اليوم، إذا كان بوسعنا أن نتجادل في تلك الطبيعة أو أن نكوّن انطباعات عنها، فالحقيقة هي أن تلك الرسائل جادلت من قبلنا بكثير. بل إنها حددت معالم الجريمة بمستوى من الوضوح يكاد يكفي ليقول إن الوحشية كانت عملا مثبتا وقائما على سبق إصرار وتعمد.

 

هزيمة إيران في الحرب مع العراق في العام 1988 كانت من أهم الأسباب التي دفعت آية الله الموسوي الخميني إلى البحث عن كبش فداء، يُنفّس فيه عن غضبه ويبرر به فشل مشروعه للسيطرة على العراق.

 

مشروع “تصدير الثورة” إلى دول المنطقة كان يستهدف العراق أولا. والفشل فيه هو الذي جعل الخميني يقول إنه يفضّل تجرّع كأس السمّ على القبول بوقف إطلاق النار مع العراق. وكان يردد على الدوام أنه لن يتراجع عن هذه الحرب حتى اللبنة الأخيرة من مدينة طهران. وكان يقول “إن السلام يدفن الإسلام” وإن الحرب هي التي تبقيه حيا.

 

انهيار وإعدامات

 

عبدﷲ نوري وزير الداخلية الأسبق للنظام يقول بأن الخميني كان يجلس أمام الحائط ولا يتكلم مع أحد وكان يبكي ويضرب نفسه، في دلالة على الانهيار النفسي التام. ومن هذا الانهيار جاءت الفتوى التي كتبها بخط يده، والتي يطلب فيها تنفيذ إعدامات جماعية ضد كل المتهمين بالانتماء إلى “مجاهدي خلق” بصرف النظر عمّا إذا كانوا قد ارتكبوا أفعالا تستوجب الحكم الإعدام.

 

يقول فيها:

 

“بسم ﷲ الرحمن الرحيم

 

“بما أن المنافقين الخونة لا يؤمنون أبدًا بالإسلام، وإن كل ما يقولونه يأتي من المكر والنفاق؛ وبإقرار قادتهم يعتبرون مرتدّين عن الإسلام. ونظراً لأنهم محاربون، ومع الأخذ في الاعتبار حروبهم النظامية في شمال وغرب وجنوب البلاد، وصنوف تعاونهم مع حزب البعث العراقي وقيامهم بالتجسس لصالح صدام ضد الشعب المسلم، ومع العلم باتصالاتهم بالاستكبار العالمي، والضربات الغادرة التي وجهوها منذ قيام نظام الجمهورية الإسلامية وحتى الآن؛ فإن الموجودين منهم في السجون الذين لا يزالون متمسكين بموقف النفاق فإنهم يعتبرون محاربين ويحكم عليهم بالإعدام.

 

ويتم تحديد ذلك في طهران بأكثرية آراء السادة حجة الإسلام نيري دامت إفاضاته (القاضي الشرعي) والسيد إشراقي (المدعي العام في طهران) وممثل وزارة المخابرات. مع الاحتياط يقتضي إجماعهم. وهكذا الامر بالنسبة لسجون المحافظات حيث يؤخذ رأي أكثرية الأصوات من السادة قاضي الشرع ومدّعي عام الثورة وممثل وزارة المخابرات كحكم ملزم. ومن السذاجة الترحم بالمحاربين. إن استخدام الحزم الإسلامي حيال أعداء ﷲ هو من المبادئ التي لا مجال للتردد فيها في النظام الإسلامي. آمل لكم أن تكسبوا رضى ﷲ باستخدام غضبكم وحقدكم الثوريين ضد أعداء الإسلام. وعلى السادة الذين يتولون المسؤولية في تطبيق القرارات الشرعية أن لا يترددوا في ذلك أبدًا، وأن يسعوا ليكونوا “أشداء على الكفار”. فإن التردد في مسائل القضاء الثوري الإسلامي إهمال وتجاهل لدماء الشهداء الزكية. والسلام. روح ﷲ الموسوي الخميني”.

 

رسائل استيضاح

 

أثارت هذه الفتوى الذعر في نفس رئيس السلطة القضائية موسوي أردبيلي. لكنه لم يتجرأ أن يخاطب الخميني بشأنها مباشرة، بالنظر إلى ما كانت تعنيه من عمل يتجاوز حدود القضاء وشرعية الحكم. فاستعان بأحمد ابن خميني ليطرح عليه ثلاثة أسئلة حول كيفية تنفيذ فتواه، تضمنت كل الإشارات الممكنة التي توفر للخميني السبيل للتراجع أو لتقليص عدد الضحايا على الأقل.

 

كتب أحمد لأبيه الرسالة التالية:

 

“والدي المحترم سماحة الإمام مد ظله العالي:

 

بعد التحية

 

اتصل بي هاتفيا آية ﷲ موسوي أردبيلي للاستفسار عن بعض مما ورد في الحكم الصادر مؤخرًا عن سماحتكم بخصوص المجاهدين، من خلال ثلاثة أسئلة طرحها وهي:

 

1 - هل هذا الحكم يشمل هؤلاء الذين كانوا في السجون وسبق أن تمت محاكمتهم وحكم عليهم بالإعدام دون أن تتغير مواقفهم ولم يتم تنفيذ الحكم بحقهم بعد؟ أم حتى الذين لم يحاكموا ولم يحكم عليهم بالإعدام؟

 

2 - هل يشمل المنافقين المحكوم عليهم بالسجن وقضوا فترة من محكوميتهم إلا أنهم مازالوا متمسكين بنفاقهم؟

 

3 - بالنسبة إلى المنافقين في المحافظات المستقلة قضائيا وغير تابعة لمركز المحافظة هل يجب إرسال ملفاتهم إلى مركز المحافظة أم بإمكانهم العمل بشكل مستقل؟

 

ولدكم أحمد”.

 

فأجابه أبوه بما يلي:

 

“في جميع الحالات المذكورة أعلاه، فإن أيّ شخص كان وفي أية مرحلة كانت، إذا ما زال متمسكاً بفكرة مجاهدي خلق فليحكم عليه بالإعدام. أبيدوا أعداء الإسلام بسرعة. وفيما يتعلق النظر في الملفات ومثل هذه القضايا فإنه يجب العمل على تنفيذ الأحكام بأسرع ما يمكن. هذا ما أريده. روح ﷲ الموسوي الخميني”.

 

آية ﷲ منتظري كان في ذلك الوقت هو الخليفة المعين للخميني، ما يعني أنه كان الرجل الثاني في النظام، وكتب في مذكراته يقول:

 

“في ذلك الوقت قرّر البعض القضاء على مجاهدي خلق كاملة حتى ترتاحوا منهم… رسالة الإمام لم يكن عليها تاريخ لكنها صدرت يوم الخميس ووصلتني يوم السبت… جاءني أحد المسؤولين في السلطة القضائية وشكا من رئيس المخابرات في مدينة قم لأنه قال يجب قتل هؤلاء بسرعة حتى نرتاح منهم… يقول إن الإمام قد أصدر الحكم بحقهم ونحن فقط يجب أن ننفذّ هذا الحكم…. فشعرت بأن هذا الأسلوب غير صحيح فقرّرت أن أكتب رسالة إلى الإمام”.

 

منتظري أرسل هذه الرسالة إلى الخميني في الحادي والثلاثين من يوليو 1988، وكرر فيها محاولة أردبيلي لتخفيف الأحكام أو وضع قيود لها، والحد من عشوائية القتل الجماعي فيها. فكتب يقول:

 

“بسم ﷲ الرحمن الرحيم

 

بحضور سماحة آية ﷲ العظمى الإمام الخميني مدّ ظله العالي

 

بعد التحية والسلام، بخصوص الحكم الصادر عن سماحتكم مؤخرًا بإعدام المنافقين الموجودين في السجون أقول إن إعدام المعتقلين بسبب الأحداث الأخيرة أمر يقبله الشعب والمجتمع ويبدو أن لا يترتب عليه أثر سيئ؛ ولكن إعدام الموجودين سابقاً في السجون فإنه:

 

أولاً - سيحمل في الظروف الراهنة على الاقتصاص والثأر.

 

ثانيا ً- سيجعل عائلات كثيرة من العائلات الثورية المتمسكة بالدين مؤلمة، مكلومة ويجعلها تنزعج جداً منا.

 

ثالثا ً- علمًا بأن الكثير من هؤلاء السجناء غير متمسكين بمواقفهم إلا أن بعض المسؤولين يعاملونهم بأنهّم متمسكون بالموقف.

 

رابعا ً- في ظروف أصبحنا فيها مظلومين أمام العالم بسبب الضغوط وبسبب الهجمات الأخيرة لصدام وللمنافقين والعديد من وسائل الإعلام والشخصيات شرعت بالدفاع عنّا فليس من مصلحة النظام ومصلحة سماحتكم أن تشنّ علينا حملة الدّعايات مرّة أخرى.

 

خامسا ً- إن الذين حكمت عليهم المحاكم طبقاً للقوانين بأحكام أقل من الإعدام فان إعدامهم بشكل مرتجل ومن دون قيامهم بأنشطة جديدة معناه عدم الالتزام بشيء من المعايير القضائية وأحكام القضاء، ولن يكون لها مردود إيجابي.

 

سادسا ً- ليس المسؤولون في القضاء والادعاء العام والمخابرات في نظامنا على مستوى “المقدس الأردبيلي” (في التقوى) واحتمال وقوعهم في الخطأ وانفعالهم وارد بشكل كبير؛ وتطبيقاً لحكم سماحتكم الأخير سوف يُعدم أيضًا كثيرون من الاشخاص الأبرياء أو أفراد خفيفي الذنب، وفي الأمور المهمة يعدّ الاحتمال منجزًا أيضًا.

 

سابعاً - إننا لم نجن حتى الآن شيئاً من أعمال القتل والعنف سوى تعرضنا لمزيد من الحملات الإعلامية المضادّة، وزدنا في المقابل من جاذبية المنافقين وأعداء الثورة. فمن المناسب أن نتعامل بالرحمة والعطف لفترة، وسيكون ذلك جذاّبة لكثيرين دون شكّ.

 

ثامنا ً- وإذا افترضنا وإنكم بقيتم مصرّين بأمركم ففي الأقلّ أصدروا أمرا لأن يكون المعيار القرار المتخّذ بإجماع آراء القاضي والمدعي العام وممثلّ المخابرات وليس بأكثرية الأصوات وأن تستثنى النساء، خاصة اللواتي لهنّ أولاد، علماً بأن إعدام عدة آلاف شخص خلال بضعة أيام لن يكون له مردود جيدّ ولن يكون بمنأى عن الخطأ. ولهذا السبب كان بعض القضاة المتدينين مستائين جدّاً. ومن المستحسن أيضًا الأخذ بالحديث النبوي الشريف التالي:

 

قال رسول ﷲ (ص) “إدرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوّا سبيله؛ فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة” والسلام عليكم وأدام ﷲ ظلكّم.

 

16 ذي الحجة 1408/31 يوليو 1988 حسين على منتظري”.

 

منتظري لم يكتف بهذه الرسالة. فعاد ليكتب رسالة ثانية بعد أربعة أيام، قدم فيها أمثلة على نمط تحقيقات يثبت أن الهدف منها هو إعدام المتهم، كيفما كانت إجابته.

 

لم يكتف منتظري بمخاطبة الخميني، فكتب رسالة إلى أعضاء لجنة الموت التي أشرفت على تنفيذ أحكام الإعدامات الجماعية، خاطب فيها “السادة نيري وأشراقي ورئيسي وبورمحمدي” في الخامس عشر من أغسطس 1988، ليقول “إن هذا النوع من المجزرة بدون محاكمة، والتي ترتكب ضد السجناء الأسرى سيكون في نهاية المطاف لصالحهم دون أدنى شك، والعالم سوف يديننا، وهذا سوف يشجّعهم على تصعيد كفاحهم المسلح. ومن الخطأ محاربة الفكر والعقيدة من خلال القتل”.

 

وختم رسالته بالقول “لقد استقبلت العديد من القضاة المتعقلين والمتمسكين بالدين الذين كانوا متضايقين يشتكون من كيفية التنفيذ ويقولون إن هناك تشددا وانتهاكات، ونقلوا نماذج عديدة حيث نفذت أحكام الإعدام دون سبب”.

 

الغضب على منتظري

 

رسائل منتظري ومخاطباته العقلانية لأعضاء لجنة الموت، حتى وإن كانت تقصد الدفاع ضمنا عن سمعة الإمام وهيبته ومصير ولاية الفقيه وموقف التاريخ منها، إلا أنها لم تشفع له، ودفعت الخميني إلى إقالته من خلافته، وفرض العزلة عليه، وتهديده بعقاب شديد. فكتب له الخميني رسالة كان مما جاء فيها قوله “أكتب لك بعض الكلمات وقلبي مكسور يقطر دماً، لتطلع الأمة على الأحداث. لقد ذكرت في رسالتك الأخيرة أن آرائي الشرعية مقدمة على آرائك، ولا يسعني هنا إلا أن أقول بأنك ستسلم البلاد والثورة الإسلامية من بعدي للجناح الليبرالي ومن خلالهم للمنافقين. لقد فقدت صلاحية وشرعية قيادة النظام مستقبلا ً. إنك تعتقد ومن خلال تصريحاتك ومواقفك بضرورة حكومة البلاد من قبل الجناح الليبرالي والنفاق. ولا أراك تكلمت إلا بما أملاه عليك المنافقون الذين لا أعتقد بجدوى الرد عليهم. من الآن فصاعداً لست خليفتي وسأعفيك حتى من المسائل المالية التي ترجع فيها الطلاب إليك وعليك أن توجههم إلى مكتب بسنديده (شقيق الخميني) أو إلى جماران في طهران”.

 

ووجه الأمر له بألاّ يتدخل في قضية سياسية، وألاّ يراسله، وطالبه بأن يتوب ويعترف بالذنب، وإلا فإنه سيحترق في قعر جهنم. وأضاف مهددا “سيكون لي معك تكليف آخر إذا تماديت في أفعالك”.

 

وما من شيء في تلك الجريمة إلا وكان مقصودا بدافع التكفير والتخوين الأقصى حتى لأولئك الذين قضت محاكم الثورة الإسلامية بالحكم عليهم بأحكام خفيفة. بل إن أحكام الإعدامات لم تقتصر على أعضاء “مجاهدي خلق” وحدهم ولكنها شملت أفرادا من عائلاتهم، ومن يقرأ منشوراتهم.

 

مجاهدو خلق هم التنظيم الذي قاد مطالع الثورة ضد نظام الشاه، قبل أن يسرقها رجال الدين بقيادة الخميني. ولكنهم مواطنون إيرانيون في النهاية. وكان يفترض بأدنى حدود المنطق أن يعاملوا وفقا للقانون، حتى ذلك الذي سنته سلطة ولاية الفقيه. ولكن تمت تصفيتهم بوحشية، وما تزال قبورهم الجماعية غير مكتشفه بعد. وأعدادهم التي تقدر بأكثر من 30 ألف سجين ليست أعدادا نهائية على الإطلاق.

 

“ثورة” كهذه، ورجال دين كهؤلاء، فعلوا بمواطنيهم ما فعلوا، كيف لا يسترخصون حياة الملايين من أبناء الشعوب الأخرى؟

 

مجازرهم في العراق وسوريا واليمن ولبنان قد تقول الكثير، إلا أنها مثل المدافن الجماعية لضحايا مجزرة العام 1988، أعدادها لم تحص بعد. والتاريخ وحده هو الذي سيتكفل بتقديم التوصيف الصحيح لها، لنعرف ما إذا كانت “جريمة ضد الإنسانية” أو “جريمة حرب” أو أيّ شيء يستحق أن يذهبوا به هم إلى قعر جهنم. إنهم وحوش، لا بشر. لا شيء فيهم من طبيعة البشر، أصلا