الثورة بشكل مبسط هي تغيير الواقع السيء إلى الافضل، وعليه فان ثورة ال 26 سبتمبر عام 1962 هي الحالة اليمنية الوحيدة التي يمكن الحديث عنها وفق هذا المعنى، فقد كانت احوال اليمنيين قبل هذا التاريخ سيئة للغاية، كان العالم يتطور في كل مجالات الحياة وكان اليمن متخلفا، وحسب حديث أبي، الوثائق والروايات المنشورة فان بيت حميد الدين لم يكن لديهم نية لتجاوز جدار التخلف الذي شيدوه لفصل اليمن عما يدور حوله في الاقليم والعالم عموما.
لا يشعر بمعنى الجمهورية والثورة الا من عاش قبلهما، ولذلك كان أبي الذي قضى ثلث عمره في ظل حكم الكهنوت، يحدثني عن الفارق العظيم بين النظام الجمهوري وبين حكم بيت حميد الدين، في التعليم، في الصحة، في الفرص المتساوية والحياة المدنية، في الديمقراطية، وفي التنمية، يقول أبي: لا مجال للمقارنة، ولذا فان 26 سبتمبر كانت ثورة حقيقية بالنظر إلى التغيير الشامل الذي تحقق لاحقا مقارنة بأحوال اليمن واليمنيين قبل ذلك اليوم.
كان أبي يحدثني عن" فكرة "الجمهورية ويرى أن عظمة ذلك تتجلى – بالنسبة إليه - في أنه كان يعيش في عهد "الامام" بلا افق! وبدون امل في أي ضوء عند نهاية النفق! بعد الثورة، اتسعت زاوية الرؤية لتصبح بحجم الحلم الذي كان يراوده ويداعب خياله المفعم بالعاطفة المتدفقة وحب الشعر والكتب والرغبة في معرفة العالم الموجود خلف أسوار الدولة المتوكلية!
"التحق أبي بسلاح الاشارة وقاتل في صفوف الجمهورية في بني حشيش ومناطق أخرى، في السنين الاولى للجمهورية “، وهذا الدور – وان كان صغيرا- الا انه جزء اساسي مما انا فخور به في سيرة هذا المواطن اليمني البسيط الذي ظل - حتى وفاته في العام 2018- يعتبر الجمهورية هي المنجز الأهم لليمنيين في تاريخهم الحديث والمعاصر على الاطلاق.
كان أبي يعشق الجمهورية بصمت ويشعر تجاهها بالامتنان، فلم يعد مضطرا للبحث عن سبب غير منطقي لجهة محاولة التعاطي مع "الامام" كفكرة مقدسة تثير الرعب، وتنال من كرامة الناس!
اتذكر ان أبي كان يمنعني من تقبيل ركبتيه، حين كنت أسلم عليه في ايام الجمعة والعيد، ويبادرني بالإمساك براسي ورفعه عاليا، ليقبل جبيني، ويقول لي وهو يبتسم: يا ولدي قد سار زمن تقبيل الركب، قد فعلنا ثورة لأجل هذا الخبر!
حين وعيت ونضج عقلي، ربطت بين ذلك القول وبين عزة النفس التي ميزت أبي – وكل اليمنيين - طوال حياته.
اتحدث عن الثورة والجمهورية كمنظومة حياة , وكفرص متساوية اتيحت لكل اليمنيين , لا اتحدث عن منصب او مصلحة خاصة ,فأبي وغيره ملايين اليمنيين لم ينظروا إلى الثورة أو الجمهورية كمنصب او جاه , فالتخلص من الفوارق الطبقية في المجتمع كان بالنسبة لهم ثورة حقيقية, وكذلك سطوة القانون والدستور في التعامل مع الناس بمنطق الحقوق والواجبات , وان الشعب –وليس الإمام- هو مصدر السلطة وصاحب المصلحة الاولى والاخيرة , هذه المعاني كانت بالنسبة لأبي ثروة , استطاع بها ان يعيش معززا مكرما , وان يحصل ابناؤه على فرصهم في التعليم في المدرسة والجامعة , وحقهم في المعرفة، وحقهم في الحلم بـ"غد جميل" و"بكرة افضل" ,وفي ظل النظام الجمهوري والدولة المدنية بدستورها وقانونها وديمقراطيتها , تظل هذه المعاني حاضرة ومتوهجة , وبها كنا دائما نستطيع ان نتجاوز أي اختلالات او اخفاقات هنا او هناك , لكن ما يحدث اليوم من استهداف ممنهج لجمهوريتنا وثورتنا , يضع اليمنيين عل المحك لجهة الشعور الحقيقي بالقلق على حاضرنا والخوف عل مستقبل أبنائنا , في ظل ما نعتقد انه عودة "الامام " مرة اخرى , بشحمه ولحمه وفكره و احقاده , حيث منيت اليمن خلال السنوات السبع العجاف الماضية , بأحداث مؤسفة , سيطر "الائمة الجدد" فيها على البلاد ومؤسسات الدولة بقوة السلاح , ورفعوا خلال ذلك شعارات الانقلاب عل ثورة اليمنيين وجمهوريتهم , وأعادوا إحياء خرافات الكهنوت, وعاثوا في الارض فسادا ونهبا وظلما , وباتوا يمثلون تهديدا مباشرا للسلم الاجتماعي وللاستقرار والقانون ولكل اسس ومرجعيات التعايش التي توافق عليها اليمنيون على مدى خمسة عقود مضت, كان اباؤنا خلالها يشعرون بالطمأنينة على المستقبل , اما اليوم وقد صرنا "آباء" ,فقد فقدنا ذلك الاحساس , وبات الاحباط يحاصرنا من كل جهة , واصبحنا نظن ان مستقبل "ابنائنا" يكتنفه الغموض !
من اجل ذلك، ارى ان التاريخ يكرر نفسه، وان ما ناضل وعاش أبي من اجله، يتجلى اليوم من جديد كسبب ودافع لأن اقوم بدور مشابه، على طريق الدفاع عن احلامي ومستقبل ابنائي، ومواصلة النضال من اجل “جمهورية أبي" وكل اليمنيين.
26 سبتمبر 2021ِ