الرئاسة والجيش في الجزائر في قمة الغضب... بعدما وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ما اعتُبر كلاماً موجعاً للغاية للمؤسستين وللبلاد عامة. الألفاظ كانت عاكسة لشعور من جانب فرنسا بأن صبرها نفد وهي تبذل جهداً لإقناع الجزائريين، منذ فترة حكم الرئيس جاك شيراك، من دون جدوى، بطيّ صفحة الماضي المرتبط بالغزو الفرنسي في القرن الـ19، ونسيان «آلام الذاكرة». أما الجزائريون، من جهتهم، فيرفضون بحدّة الانخراط في هذا الطرح، قبل أن تعلن فرنسا «توبتها»، وأن يصرح قادتها أنها ارتكبت ذنباً شنيعاً خلال الاحتلال.
وفي 30 من الشهر المنقضي، جمع ماكرون 18 شاباً من أحفاد الذين عاشوا الحرب في الجزائر، في إطار مسعى يقوم به منذ وصوله إلى الحكم، سماه «لملمة جراح الذاكرة». وخلال أخذ وردٍّ معهم، تساءل: «ما إذا كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي». وأشار ماكرون إلى أن «الأتراك تمكّنوا من جعل الجزائريين ينسون أنهم (أي الأتراك) استعمروا بلادهم»، داعياً من ثم «لإعادة كتابة التاريخ الجزائري باللغة الجزائرية لمحو تزييف الحقائق التي قام بها الأتراك».
تلقت الجزائر بحساسية بالغة كلام إيمانويل ماكرون، الذي ينطوي على معنى في غاية الإهانة للبلاد وشعبها، مفاده أن للاستعمار الفرنسي «أفضالاً حضارية على الجزائريين، الذين كانوا يسكنون الخيمة ويرعون الغنم قبل أن تأتي إليهم فرنسا لتدخلهم المدنية».
والواقع أن ماكرون لم يتوقّف عند هذا الحد... إذ ذكر بأن الجزائر أنشأت بعد استقلالها عام 1962 «ريعاً للذاكرة كرّسه النظام السياسي - العسكري». وتحدث عن «تاريخ رسمي للجزائر أُعيدت كتابته بالكامل وهو لا يستند إلى حقائق، إنما على خطاب يرتكز على كراهية فرنسا». ثم ذكر أن «حواراً جيداً يجمعني بالرئيس (الجزائري عبد المجيد) تبون، لكني أرى أنه محتجز لدى نظام متحجّر جداً». ما يعني، حسب مراقبين، أن الرئيس الجزائري «رهينة للعسكر» وأنه لا يحكم فعلياً.
من جانب ثانٍ، استهدف الرئيس الفرنسي «المجتمع الحاكم» - كما سماه - بقرار اتخذ منذ أيام بتقليص منح التأشيرات إلى النصف. وأبرز ذلك على أنه عقاب للمسؤولين الذين يحصلون على التأشيرة بسهولة، بعدما رفضوا طلب فرنسا تسليمهم مهاجرين جزائريين غير نظاميين وأشخاص محل شبهة إرهاب. وهدّدهم بأن فرنسا «لن تجعل حياتهم سهلة» عندما تمنع عنهم «الفيزا».
وسريعاً جاء رد الجزائر باتخاذ سلسلة من الإجراءات الرسمية ضد فرنسا، كان أولها سحب السفير الجزائري من باريس، وإغلاق أجواء الجزائر في وجه الطيران الحربي الفرنسي الذي يقوم بمهام بشمال مالي؛ حيث يلاحق الجماعات المتطرفة منذ 2013.
- الموسم الانتخابي الفرنسي
وما يلفت الانتباه في هذا الفصل الجديد من التشنج، أنه كلما اقترب موعد انتخابي في فرنسا، يقفز التوتر بين الجانبين الفرنسي والجزائري إلى الواجهة... كأنما لا يمكن أن تجري الانتخابات، من دون أن يدعى إلى حضورها «الضيف الجزائر». ويكون ذلك في الغالب بإثارة ملفات تاريخية كـ«الحَركي» (الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار وعاش قطاع منهم في فرنسا بعد الاستقلال)، و«الأقدام السوداء» (الأوروبيين الذين ولدوا في الجزائر وغادروها في أيام الاستقلال). ولهذا السبب يربط جلّ المراقبين تصريحات ماكرون بأجندة «الرئاسية» الفرنسية المقرّرة في أبريل (نيسان)المقبل.
- «منطق ميكيافيلي»
الكاتب الصحافي الجزائري عبد العالي زواغي قال لـ«الشرق الأوسط» معلقاً بهذا الخصوص: «في الظاهر، تبدو التصريحات المشينة للرئيس الفرنسي كأنها رقصة الديك المذبوح، فالرجل على أعتاب رئاسيات جديدة يطمح للفوز من خلالها بولاية ثانية. وهذه الغاية بـ(المنطق الميكيافيلي) جعلته يتحرّر من اللباقة والأعراف الدبلوماسية، ويستدعي التاريخ بكل تلك الحساسية المفرطة التي تميز العلاقات مع الجزائر.
وهكذا راح يرمي الكلام على عواهنه، ويخوض في تاريخ الأمة الجزائرية بشكل فضح جهله ونقص إلمامه بالتاريخ، علّه يستجلب إليه تعاطف أصوات انتخابية تستهويها الأسطوانة التي رددها، ونقصد طبعاً الخزان اليميني الذي يعادي المهاجرين ويحنّ للماضي الاستعماري مدفوعاً بوهم التفوّق الأبيض ومعاداة الإسلام. وهذا تيار انتعش خلال السنوات الأخيرة في جميع دول أوروبا... وهذه الخطوة تبدو مدروسة، فقد اتبع ماكرون لتنفيذها سياسة التدرج، واستبقها بالاعتذار الرسمي لـ(الحركي) الذين خانوا وطنهم وأبناء شعبهم وحاربوا إلى جانب فرنسا ضدهم».
وبحسب الكاتب زواغي: «درج الرؤساء الفرنسيون على استحضار الملفات الشائكة للعلاقات الفرنسية الجزائرية عند كل موعد انتخابي، وبدرجات متفاوتة من حيث الحدة في طرح بعض التفاصيل، لكن الرئيس الحالي تجاوز كل الحدود المسموحة. ويبدو أنه أفرغ ما بجعبته من عقيدة كولونيالية ما زالت تنظر إلى الجزائر بنظرة استعلائية أبوية كأنها لا تزال مستعمرتها التي كانت قبل 1962».
وأردف: «في الحقيقة، ماكرون عبّر بصوت مرتفع عمّا تؤمن به النخبة السياسية الفرنسية في السر، فهو كشف لنا جميعاً العلة الحقيقية في العلاقات بين البلدين، وأبان عن المحرّك الرئيس في بناء المواقف وردود الفعل لدى النخبة الفرنسية، وهي الفكرة الكولونيالية المتجذّرة في السمت التكويني للشخصية الفرنسية بحد ذاتها، والتي تعتبر الجزائر حديقة خلفية لها وخزاناً كبيراً يدفق الحياة في شرايين اقتصادها... وهي علة مزمنة يبدو أن الفرنسيين لا يستطيعون الشفاء منها».
- «منطقة فراغ حضاري»
كذلك قال زواغي: «كانت فرنسا، وما زالت، تستند إلى فريّة كبيرة رافقت احتلالها للجزائر... ويبدو أن الرئيس ماكرون متمسك ومؤمن بها، مؤداها أن الجزائر كانت قبل الغزو البربري المتوحش، منطقة فراغ حضاري يجب ملؤه وتمدينه، لكن بقطع الرؤوس وبقر البطون وتهجير الجزائريين وارتكاب مجازر وحشية بحقهم، لم يسبق لأي قوة استعمارية أن اقترفت مثيلاً لها».
وتابع: «يبدو جلياً أن تطرق ماكرون للنظام الجزائري، ومهاجمته للعسكر، واتهام النظام المتصلب باحتجاز الرئيس تبون، تصريحات استهلاكية وطلقات عشوائية أو رسائل موجهة لطرف ما، تعبر عن تغيير داخلي يجري لغير صالح الطرف الفرنسي.
وتبقى تصريحاته هذه قطب الرحى في تحديد معالم المستقبل في العلاقات الثنائية، لأنها استهدفت كيان الأمة الجزائرية وروحها، وهو ما لا يمكن للجزائريين تفويته. ولقد ظهر ذلك من خلال تصريحات الرسميين الجزائريين وموقف الدولة، ومن خلال ردود فعل مستخدمي (فيسبوك) الذين انبروا لإدانة ما صرح به الرئيس الفرنسي، ونشر الحقائق التاريخية والمطالبة بقطع العلاقات مع فرنسا وتحجيم مصالحها الاقتصادية والثقافية في البلد، واعتبار ذلك بمثابة الترياق الشافي الذي بفضله تتخلص الجزائر من تخلفها وترنحها الاقتصادي والاجتماعي».
- ثمة جزائريون يحبون فرنسا
من جهة أخرى، كتب المحلل السياسي عبد الوهاب لكوارع، في حسابه على «فيسبوك»، عن تصريحات ماكرون والسخط الذي خلّفته، فقال: «لقد تحدّث عن نظام بوليتيكو - عسكري يعتاش من ريع الذاكرة، وهو وصف دقيق جداً للنظام الحاكم عندنا.
قال إن الشعب الجزائري لا يكره فرنسا، وهو أمر غير دقيق، فهناك من الشعب الجزائري مَن يكره فرنسا حقاً ولكن هناك أيضاً نسبة مُعتبَرة منه يحبون فرنسا، ولا أدلّ على ذلك من قوافل الحراقة (المهاجرين غير النظاميين) التي تحطّ رحالها كل يوم هناك. كذلك لا ننسى، مثلاً، كيف استقبل آلاف الجزائريين جاك شيراك (الزيارة جرت عام 2003) بعد فيضانات باب الواد (حي شعبي بالعاصمة) هاتفين باسمه ومطالبين بالفيزا».
وقال لكوارع أيضاً: «قال (ماكرون) إن السؤال يبقى مطروحاً بشأن وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي، وقد ذهب فرحات عباس، أيقونة الحركة الوطنية الجزائرية، وأول رئيس للحكومة المؤقتة، وأول رئيس للمجلس التأسيسي للدولة الجزائرية، أبعد من ذلك حين قال إبان سنوات تيهه السياسي، إنه بحث عن الأمة الجزائرية في المقابر ولم يجدها».
لكوارع يعد ماكرون «رجلاً سياسياً ذكياً وطموحاً، وهو يلعب كلّ أوراقه للفوز بولاية ثانية، بما فيها استغلال ورقة التاريخ»، مضيفاً: «في المحصَلة، ما زال الجزائريون المساكين غارقين في البحث عن هويّتهم وتاريخهم... وكان يكفيهم تبنّي 5 يوليو (تموز) 1962 تاريخ معجزة الاستقلال عن فرنسا كبداية مظفرّة للأمّة الجزائرية الحديثة، عوضاً عن المعارك السخيفة مع التاريخ لاستنطاقه عن البداية الحقيقية لهذه الأمّة».
واستشهد لكوارع، برواية «موسم الهجرة إلى الشمال» الشهيرة، التي كتبها الأديب السوداني الطيب صالح في أواسط ستينات القرن الماضي، وخاض فيها بشأن الهوية.
إذ يقول عن المستعمرين: «لم يكن مجيئهم مأساة كما نصوّر نحن، ولا نعمة كما يصوّرون هم، كان عملاً ميلودرامياً سيتحوّل مع مرور الزمن إلى خرافة... كونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا. هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا، إنهم سيخرجون من ديارنا إن عاجلاً أم أجلاً... سكك الحديد والبواخر والمصانع والمستشفيات والمدارس ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل... سنكون كما نحن قوماً عاديين، وإذا كنا أكاذيب فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا».
- الجزائر تضيع من يد فرنسا
أما الكاتب عبد الجبار باطَة فقال لـ«الشرق الأوسط»: «عندما حلّ ماكرون بالجزائر أثناء حملته الانتخابية قبل 4 سنوات، قال بالحرف الواحد؛ من البديهي أن أقوم بهذه الزيارة بالنظر إلى دور الجزائر في تاريخنا وفي بلادنا وفي مستقبلنا... ليضيف في خطابات أخرى؛ أن استعمار الجزائر كان جريمة ضد الإنسانية... لا يعقل أبداً أن يكون صاحب الخطاب الهجومي هو نفسه مَن يشكك في وجود أمة جزائرية كانت موجودة قبل الاحتلال الفرنسي.
ومن البديهي كذلك أن الأمة التي تصنعها بنفسك لا يمكن لها أبداً أن تتجاوزك ليصبح لها دور في وجودك وفي مستقبلك. إن التناقض الصارخ فيما يصرّح به ماكرون حسب مزاجه وعقليته المتقلبة، يدفعنا إلى قراءة معمّقة للواقع، بعيدة كل البعد عن أن ماكرون قد يكون فعلاً بحاجة إلى فحص صحته العقلية - كما يقول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان - بل إلى قراءة كل الجوانب المحيطة به داخلياً وخارجياً، وما يدفعه لأن يكون شاذاً هذه المرة في خرجاته وتصريحاته الأخيرة، عكس كل رؤساء فرنسا السابقين».
وفي نظر باطة: «تشعر فرنسا فعلاً أن الجزائر تضيع من يدها؛ خصوصاً بعد النزيف الهائل والمتواصل للشركات الفرنسية التي تغادر البلاد دون رجعة، بعدما رفض النظام الجزائري الجديد تجديد عقودها، وكذلك بعد الزجّ بالسياسيين ورجال الأعمال المحسوبين عليها في السجون الجزائرية والباقي فرّ خارج البلاد».
- هناد: ماكرون محقّ
في المقابل، يدعم محمد هناد، أستاذ العلوم السياسية، بشكل قوي موقف ماكرون من نظام الجزائر.
إذ كتب: «لقد فوّتت السلطات الجزائرية، كعادتها، على نفسها الفرصة للظهور بمظهر المسؤول الواثق من نفسه بعد تصريحات ماكرون.
وقد جاراها في ذلك كثير من إعلاميّينا ومثقفينا، للأسف. لنبحث، بهدوء، فيما قاله الرئيس ماكرون؛ أولاً، أظن أنه ينبغي أن نشيد بالرئيس الفرنسي لأنه أجهر بما يضمره الساسة في فرنسا، فيما يخص التقدير التي يحظى به بعض من حكامنا هناك بسبب فسادهم واتخاذهم من فرنسا ملاذاً لأموالهم وترفهم. لذلك من المتوقع أن يُقدِم هؤلاء على تحويل ممتلكاتهم خارج فرنسا...
ويقول الرئيس الفرنسي إن الجزائر بُنيت، بعد الاستقلال على ريع ذاكرة برعاية نظام سياسي عسكري! أليس ذلك عين الصواب؟». ويستند ريع الذاكرة، حسب هناد، إلى «ريع آخر هو ريع المحروقات، كما يستند على قمع المعارضة أياً كانت.
أضف إلى ذلك أن الدولة الجزائرية نفسها قامت على انقلاب عسكري ضد الحكومة المؤقتة، مباشرة بعد إعلان توقيف الحرب. ولترسيخ حكمهم، اعتمد الانقلابيون على تاريخ رسمي هو أشبه ما يكون بسير القدسيين (hagiographie)، تاريخ قائم - كما يقول ماكرون - على كره فرنسا.
لكن اليوم نعلم أن هذا الكره كان مجرّد دعاية عقيمة، وكأن الكره كان قادراً على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء! لذلك، فمن حق الرئيس الفرنسي أن يَعِد بكتابة تاريخ حرب الجزائر، بالعربية والأمازيغية، بهدف مواجهة التضليل والدعاية».
وتابع هناد: «لكن هناك كلاماً قاله إيمانويل ماكرون في غاية الأهمية، يدحض فيه تلك الفكرة الشائعة التي تفيد بأن فرنسا تساند منظومة الحكم في الجزائر - هذا إن لم تكن هذه الأخيرة تأتمر بأوامرها - حيث صرح أن نظام الحكم في الجزائر أصابه العياء، وأضحى هشاً بسبب الحراك، مؤكداً طابعه العسكري، ومنوّهاً بالعلاقة التي تجمعه بالرئيس عبد المجيد تبون، لكن الرئيس الجزائري يبقى، حسبه، أسير نظام قاسٍ جداً».
وبخصوص تهديد ماكرون «الطبقة الحاكمة» بحرمانها من التأشيرة، وبأنه «لن يجعل حياتهم سهلة»، يتساءل هناد: «ألا يدل ذلك على قلة الاحترام الذي يحظى به المعنيون لدى السلطات الفرنسية، التي يبدو أنها لم تعد تهابهم؟... تُرى ما هي العبرة التي يجب أن نستخلصها من تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة، بخصوص منظومة الحكم في الجزائر؟ إذا لم يحترمك غيرك، انظر في نفسك، فلعلك أنت السبب!».