في العالم الحر، أو حتى في أقل الدول سمعة واحتراماً تتوفر للمثقف والصحافي والفنان رفاهية معيشية خاصة، يحتفى بهم كونهم يمثلون ثروة قومية ووطنية تتباهى بها المجتمعات أمام أخرى، لكن في اليمن يتساقط هؤلاء النخبة إلى أدنى مستويات المعيشة فقراً ومهانة، قد لا يصدق كثيرون أن أسماء ثقافية وفنية معروفة أصبحت في قاع الحضيض، شعراء وصحافيون ورسامون يمنيون، أصبحوا في الدرك الأسفل من الفقر، يتسولون مساعدات إنسانية عبر فيسبوك، لكنهم يتعففون عن الإعلان عن ذلك بسبب عزتهم وأنفتهم، يغلقون أبواب بيوتهم كما بطونهم، يكتفون بإرسال مناشدات لإنقاذهم بسلة غذاء أو ثمن دواء أو حتى دفع إيجار، وبعضهم يعاني من أمراض مزمنة مثل السكري وقصور الكلى والقلب، فيهرب من المستشفى لأنه لا يملك دفع فواتير العلاج.
محكوم بالموت فقراً وجوعاً وحرباً
إلى ذلك، تساءل ناشطون عما إذا كان هذا الحال بمن هم صفوة المجتمع في بلد قادته الصراعات إلى شفير الفقر، فكيف هو الحال بالطبقة الأدنى المسحوقة اجتماعياً، الوضع الراهن لا يفرق بين يمني وآخر، 30 مليون إنسان يعيشون مجاعة واحدة، لا يختلفون عن بعضهم سوى بالمسميات والأدوار والمهن، جميعهم لا يجدون طعاماً حين يجوعون، ولا دواء حين يمرضون، والمصير الأسود دون تفريق أو تمييز، شعب محكوم بالموت جوعاً وقهراً وحرباً وقصفاً ومرضاً.
أصحاب عطاءات يطلقون مناشدات إنسانية
في السياق ذاته، ووفق معلومات ومصادر جمعتها "العربية.نت" قصص مأساوية يعيش فصولها فنانون ومثقفون وإعلاميون، دفعتهم فداحة الظروف وغلاء المعيشة إلى طلب مساعدات طارئة عبر منصات سوشيال ميديا، والواضح أن قصصهم تصف أوضاعهم ولا تكشف أسماءهم، لكن من يقدم المساعدة إليهم يتفاجأ بهؤلاء القامات، وهم أصحاب عطاءات بارزة، كان يشار إليهم بالبنان، باتوا أسرى أوضاع يرثى لها، جراء تحديات معيشية طاحنة أجبرتهم على التخلي عن مهنهم التي كانت تسند أحوالهم المتردية، وتستر جوعهم وحاجتهم، قبل أن تخذلهم وتتركهم لأكثر من 3 سنوات بلا رواتب.
لقمة على حساب الكرامة
فيما أعرب مثقفون وفنانون آخرون، عن أسفهم لما آل إليهم حال زملائهم، الذين قرروا اللجوء إلى طرح قصصهم عبر وسطاء مؤثرين، لمد يد عجزهم لمن سواهم طلباً للفتات. وقال الكاتب الصحافي محمد الشرعبي، يدميني وضع المثقف اليمني الذي انسحب من دوره في نشر رسالة التنوير والتصحيح، إلى مسارات البحث عن اللقمة على حساب كرامته ومكانته الاجتماعية، هؤلاء الذين ما زالوا متمسكين بقليل من عزة نفس وبعض كرامة، لطالما رفدوا الساحة بنتاجات مهمة وملهمة وقدموا للمجتمع خدمات جليلة. فحينما لا يملكون علبة الحليب لأطفالهم أو ثمن الدواء لأمراض تتهدد حياتهم أو ذويهم، تكون المأساة قد بلغت حداً لا يحتمل، فلا يكون أمامهم سوى طلب الفتات من محيطهم، ذلك بالطبع بمثابة تسكين مؤقت للوجع، فإلى أين يتجه مصير هؤلاء النخبة المثقفة من صفوة المجتمع اليمني؟!
مقابر جماعية
ووسط بلد أنهكته الصراعات والحروب، تتهدده أكبر مجاعة سكانية على وجه الأرض، يعيش ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر، شعب يعاني ثالوث العوز والمرض والفاقة، يستبدل اللقمة بالغصة لسد الرمق، لا يعرف إلى متى سيظل يداوي أنين الحاجة، وعسر الحال، وإلى متى يستمر هذا القاتل الصامت في قطف أرواح الأطفال والمسنين والمرضى العاجزين، هذا الجوع والقحط وقلة الحيلة لا يختلف تماماً عن مجازر الجبهات وشراسة المعارك في حصد ضحاياه، متسولون في كل شارع، تتعدد وسائل الاستجداء والاستعطاف، وأطفال يفترشون كراتين الأرصفة، وأسر بكاملها لا تجد كسرة خبز وراء الأبواب المغلقة، بيوت تتداعى أركانها عجزاً وقهراً، وأشخاص نحيلون من فرض الجوع يتساقطون جثثاً في الطرقات، وآخرون يربطون أحشاءهم حتى تفتك بهم الأوبئة وسوء التغذية والأمراض المزمنة لتطرحهم أرضاً على طواريد المستشفيات التي تحولت هي الأخرى إلى مقابر جماعية بسبب تراجع الخدمات وغياب التشخيص وشح الأدوية فضلاً عن عدم قدرة الكثيرين على تحمل نفقات العلاج.
شخصيات ثقافية تنشد نصف كيس دقيق
إلى ذلك، رصدت "العربية .نت"، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قصصا وحالات إنسانية لشخصيات ثقافية وفنية وإعلامية، طحنتهم الظروف وحطمت كبرياءهم، باتوا يناشدون أهل الخير لدعمهم مادياً أو غذائياً وعلاجياً، وطلباتهم بسيطة تستطيع المنظمات الإغاثية تلبيتها، إلا أن غالبيتهم لا يتحرج من يكشف ستره للناس، ويجد صعوبة في الظهور أمام محيطه بأنه عاجز أو شحاذ، والمدهش في تلك المناشدات المتعففة أن البعض يحتاج فقط تأمين نصف كيس دقيق أو كيلو أرز قوتاً لأيام قليلة، فيما يطلب البعض كرسياً متحركاً لأحد أفراد عائلته من ذوي الهمم، أو لحافاً يقيهم برد الشتاء.
سماسرة الحرب
يصف رضوان الريمي، خط الفقر في اليمن بأنه أسوأ أنواع العنف، خلق وضعاً مأساوياً خانقاً على وقع حصار مطبق في أبسط مفردات العيش، وسط عواصف أزمات متفاقمة وحروب دامية أدت إلى كوارث اقتصادية متلاحقة، شعب لم يعد يعاني من مرارة غلاء المعيشة وانقطاع الرواتب وانهيار الريال اليمني أمام العملات الأجنبية فحسب، بل بات يكابد عناء الحصول على ربطة خبز، فمنهم من لجأ إلى جمع القناني البلاستيكية والمعدنية من أجل تأمين ثمن وجبة واحدة باليوم، لكن الأغلبية العظمى لم يكن أمامهم سوى ملاذ أخير، دفعهم إلى قبول عروض سماسرة الحروب، للتوقيع على ورقة التجنيد للانضمام إلى جبهات القتال، ليحصل على راتب مضمون من أحد أطراف النزاع، من دون أن يعلموا حتى من يقاتلون، لا يهمهم سوى أن تستمر الحرب لكيلا ينقطع الراتب الذي يعتمدون عليه لإعالة أسرهم، فيما قرر كثيرون الاستسلام للموت على فراشهم بسبب المرض وقلة الحيلة.
منظمات الإغاثة لا تصل للمحتاجين "بروباغندا" إعلامية لا تمت للإنسانية بصلة في موازاة ذلك، وقبل أيام قليلة، شنّ ناشطون يمنيون، حملات شرسة ضد منظمات حقوق الإنسان التي تعمل في مناطق الصراع والنزاع المسلح، بالتزامن مع اليوم العالمي للقضاء على الفقر الذي يصادف 17 أكتوبر من كل عام، وانتقدوا فيها وجودهم وأدوارهم غير الفاعلة على الأرض التي لا تعدو أكثر من مجرد "بروباغندا" إعلامية لا تمت للإنسانية بصلة، ويعتقدون أن تلك المساعدات لا تصل للمحتاجين والمعسرين بل تذهب إلى أمراء الحروب لإطالة أمد الصراع.
قرى نائية على حافة الجوع
من جهة أخرى، تؤكد أرقام مخيفة، أن هناك 16 مليون يمني ينامون جوعى كل يوم، وفق إحصائيات برنامج الأغذية العالمي، ويشهد اليمن أزمة إنسانية فادحة تتزايد حدتها مع ارتفاع وتيرة الحرب، يرافقها تدهور اقتصادي جرف آلالاف الأسر اليمنية خاصة في القرى النائية إلى حافة الجوع، ولا يزال الملايين من المحتاجين والمطحونين تحت رحى الفاقة يعيشون على الفتات، يبحثون عما يكفيهم من الغذاء حتى يظلوا على قيد الحياة.
هاشتاغات ومبادرات سلام يقودها شباب
وفي إفادات لناشطين على سوشيال ميديا، أكدوا لـ"العربية .نت" أن تردي الوضع الاقتصادي في اليمن، أدى إلى انعدام الأمن الغذائي، مما ساهم في اتساع رقعة المأساة وسقوط الآلاف من ضحايا الفقر والجوع والمرض الذين لم يستطيعوا الصمود أكثر. وعبر هاشتاغات ومبادرات سلام يقودها شباب يمنيون، حذروا خلالها من تفاقم مجاعة إنسانية تكاد تفتك بنصف سكان اليمن، يعزو البعض أسبابها إلى استمرار الحروب والصراعات الدامية التي خلفت دماراً هائلاً في البنية التحتية والخدمات الصحية وموارد الحياة، وآخرون يلوحون بأن مردها يعود إلى تكالب المصالح الدولية التي جردت الشعب الحزين من أبسط حقوقه في نيل عيش كريم في ظل سلام عادل مثل بقية الشعوب، كما ساهمت في امتصاص ثرواته ومقدراته لصالح إذكاء بؤر القتال. فقد تسببت الحرب التي تشهدها البلاد منذ 6 أعوام في تشريد ما يقارب 3.6 مليون نازح ونازحة، إذ يشهد اليمن أكبر مجاعة إنسانية في العالم، بحسب منظمات الأمم المتحدة، وسط حاجة 24 مليون يمني للمساعدات الإنسانية أي ما يقارب 80 بالمائة من إجمالي عدد السكان الكلي.
مؤشر الفقر إلى 20 بالمائة
وأوضح الناشط محمد عامر أن نقل البنك من صنعاء إلى عدن، وطباعة عملة جديدة غير مغطاة بالذهب، والإصرار عليها، جعل الشعب يعيش هوة فارق صرف كبيرة بين عملتين لوطن واحد.
فيما اعتبر الباحث الاقتصادي عيظة بن أحمد البريكي أن الانهيار والتدهور الحاصل في الاقتصاد اليمني نتيجة لعدة أسباب: "تعد الحرب أحد الأسباب الرئيسية في تدهور الاقتصاد اليمني بشكل عام حيث يشهد اليمن منذ عام 2014 ارتفاعا في نسبة السكان تحت خط الفقر من 65% إلى 85% في عام 2018، حسب تقرير وزارة المالية، ومن أبرز تداعيات الحرب اليمنية انكماش الناتج المحلي".
وأضاف البريكي أنه إضافة إلى الأسباب المذكورة أعلاه هناك أسباب أخرى "ويعد الفشل الأكبر في سوء الإدارة للنظام المصرفي في اليمن أحد الأسباب البارزة لتدهور الاقتصاد، حيث يعتمد اليمن على إيرادات الصادرات من النفط الخام والغاز وتحويلات المغتربين والقروض من الدول المانحة والمساعدات الخارجية بشكل عام. وتعد هذه الإيرادات من أهم موارد النقد الأجنبي للدولة، ومن سوء النظام المصرفي استنفاد الوديعة السعودية والتي مكنت البنك المركزي من تغطية الواردات الأساسية منذ 2018".