يواجه الأتراك وخاصة الفئات الاجتماعية الهشة مصاعب متزايدة خلال هذه الفترة مع تواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى، في ظل السياسات النقدية المتبعة لدفع عجلة النمو، حيث تعتبر الأوساط الشعبية أن التضخم زاد من قسوة معيشتها، رغم أنه أمر تعاني منه كافة دول العالم مع تعافيها من الجائحة.
تنتشر بين عامة الأتراك حالة من التذمر الممزوج بالإحباط جراء غلاء المعيشة غير المسبوق، بشكل أثر بصورة ملحوظة على حياتهم، وزاد من وطأة متاعبهم السقوط الحر للعملة المحلية وباتوا معها عالقين في هذه المعضلة، بينما يحاولون تغطية نفقاتهم اليومية.
وتختزل قدرية دوغرو، التي تكتفي بالخبز القديم المغطى بالسمسم لتناول طعام الغداء هذه الأيام، الحالة المعيشية الصعبة التي يمر بها المواطنون نتيجة تداعيات سياسات البنك المركزي، التي يتحكم فيها الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتروي الأرملة، وهي أم لطفلين، كيف أنها تذهب دون غداء حتى تتمكن من وضع الطعام على المائدة لعائلتها في وقت لاحق من اليوم.
والأموال التي تكسبها دوغرو البالغة 59 عاما عبر بيع السراويل الرياضية والملابس الأخرى في سوق أورتاكجيلار بمدينة إسطنبول، لم تعد تدوم، وهي تكافح لشراء الطعام، ناهيك عن أي شيء آخر.
وتقول لوكالة أسوشيتد برس “لم أختبر مثل هذه الحياة المؤسفة من قبل. أذهب للنوم، أستيقظ فأجد الأسعار قد ارتفعت. لقد اشتريت عبوة سعة 5 لترات من زيت الطبخ، كان سعرها 40 ليرة عدت فكانت 80 ليرة”. وتضيف بحرقة “نحن لا نستحق هذا”.
ويؤكد خبراء أن التضخم تفاقم بسبب سوء الإدارة الاقتصادية والمخاوف بشأن الاحتياطيات المالية وضغط أردوغان لخفض أسعار الفائدة.
ويزعم الرئيس التركي أن انخفاض تكاليف الاقتراض سيعزز النمو، رغم أن الخبراء يرون أن العكس هو السبيل لترويض الأسعار المرتفعة، وهو أمر يتسق مع إقرار وزير الخزانة لطفي ألوان في تصريحات لوكالة بلومبرغ بأن التضخم ليس عند المستوى المنشود “لسوء الحظ”.
وفي خضم ذلك، تواصل العملة المحلية فقدان قيمتها لتبلغ منذ بداية هذا العام 27 في المئة، وتراجعت إلى مستويات قياسية مقابل الدولار بعد أن خفض المركزي أسعار الفائدة، مما أثار مخاوف بشأن استقلاله.
وانخفضت قيمة العملة الثلاثاء إلى مستوى قياسي جديد بنحو 0.8 في المئة ليبلغ سعر صرف الدولار 10.14 ليرة، متأثرة بتوقعات حول خفض آخر لسعر الفائدة من المركزي هذا الأسبوع بضغط من أردوغان.
وتقول سهيلة بويراز، وهي تتصفح أكشاك الطعام في سوق أورتاكجيلار بمنطقة أيوب سلطان، إن “كل شيء باهظ الثمن، ولا يمكنني شراء أي شيء”.
وطالبت ربة المنزل (57 عاما) التي صوتت لصالح حزب أردوغان، الحكومة بالتحرك لإنهاء التضخم. وقالت “إذا كنا نصوت لكم لتصحيح الأمور، فلماذا لا تتدخلون؟ لماذا لا توقفون ارتفاع الأسعار؟”.
وحتى التجار وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه. ويقول موسى تيمور، الذي يملك محل بقالة في إسطنبول، إن ارتفاع الأسعار يجعل من الصعب عليه استبدال المنتجات لأن “أي منتج نبيعه لا يمكننا الحصول عليه بنفس الأسعار”.
وأعطى تأكيدا على أن الوضع يبدو كارثيا حين أشار إلى أن زبائنه لم يعودوا قادرين على شراء مجموعة متنوعة من الطعام، ومعظمهم يشترون الخبز والمعكرونة والبيض.
وأضر التضخم المرتفع بشعبية أردوغان، الذي تميزت سنواته الأولى في السلطة باقتصاد قوي. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن تحالف أحزاب المعارضة الذي شكل كتلة ضد حزب أردوغان الحاكم وحلفائه يضيق الفجوة بسرعة.
وبينما تظهر الأرقام الرسمية أن التضخم بلغ 20 في المئة تقريبا في أكتوبر بمقارنة سنوية، إلا أن مجموعة أبحاث التضخم المستقلة، المكونة من أكاديميين ومسؤولين حكوميين سابقين، وضعته بالقرب من 50 في المئة.
وبالمقارنة، ارتفعت الأسعار في الولايات المتحدة بنحو 6 في المئة عن العام الماضي وهي أكبر نسبة منذ 1990. وتجاوز التضخم في منطقة اليورو 4 في المئة، وهو أعلى معدل في 13 عاما.
ويقول خبراء إنه نتيجة لتراجع العملة التركية ارتفعت الأسعار، مما جعل الواردات والوقود والسلع اليومية أكثر تكلفة.
وبينما يجادل البعض بأن الليرة الأضعف تجعل المصدرين الأتراك أكثر قدرة على المنافسة في الاقتصاد العالمي، إلا أن الكثير من المجالات الصناعية التركية تعتمد على المواد الخام المستوردة.
وأثار أردوغان مخاوف بشأن نفوذه على السياسة النقدية، فعين أربعة محافظين للمركزي منذ 2019 وطرد مصرفيين قيل إنهم قاوموا خفض أسعار الفائدة. ورفع البنك أسعار الفائدة 3 نقاط مئوية منذ سبتمبر وسيصدر قراره الأخير غدا الخميس.
ورفعت البنوك المركزية في البلدان الأخرى المتضررة من الجائحة أسعار الفائدة أو تفكر في القيام بذلك في الأشهر المقبلة، حيث أدت عمليات الدعم في الموانئ والمصانع ونقص العمالة وتكاليف الطاقة المرتفعة إلى ارتفاع الأسعار.
وكان المستثمرون الأجانب يتخلصون من الأصول التركية، وقام الأتراك بتحويل مدخراتهم إلى العملات الأجنبية والذهب.
وقالت أوزليم ديريسي سينغول، الخبيرة الاقتصادية والشريك المؤسس لشركة سبين كونسولتيغ ومقرها إسطنبول، “كانت هناك عمليات بيع واسعة النطاق في الأسواق المالية بسبب هذا التدخل لاستقلال المركزي”.
وأضافت “هناك العديد من العوامل التي تحرك التضخم وأسعار السوق المالية، لكن العامل المهيمن هو سياسة المركزي التركي”.
وتقدر سينغول أن أكثر من نصف سكان تركيا “يكافحون من حيث الدخل”، في الوقت الذي يصر فيه أردوغان على أن الاقتصاد قوي وأن البلاد تخرج من الوباء في حالة أفضل من غيرها، قائلا إن “الأرفف في أوروبا والولايات المتحدة فارغة”.
وألقت حكومته باللوم في أسعار المواد الغذائية الباهظة على سلاسل المتاجر الكبرى، وأمرت بإجراء تحقيق أدى إلى فرض غرامات. كما أمر التعاونيات الزراعية بفتح ألف متجر جديد في جميع أنحاء البلاد في محاولة للحفاظ على أسعار المواد الغذائية منخفضة.
وارتفعت الإيجارات بشكل كبير، وأسعار مبيعات المنازل، التي ترتبط في الغالب بالدولار، آخذة في الازدياد.
وفي محاولة لتخفيف المعاناة، أكد وزير العمل فيدات بيلجين هذا الشهر أن الحكومة تعمل على تعديل الحد الأدنى للرواتب، لحماية العمال من ارتفاع الأسعار. وقال “يمكنني القول بالفعل إنها ستوفر الراحة”.
وتعتقد سينغول أن هذا لا يكفي. وقالت “سيكون للتضخم والدخل المنخفض والتوزيع غير المتكافئ للدخل المزيد من الآثار الجانبية في العامين المقبلين، إذا استمرت الحكومة في الإصرار على اعتماد أسعار الفائدة المنخفضة والسياسة النقدية المتساهلة”.