مصورة فرنسية: اليمن بلدي الثاني وفيها قضيت أجمل سنوات عمري

الأخبار I أخبار وتقارير

 

“طفت ربوع اليمن الذي كان “سعيداً قبل الأزمات الأخيرة أكثر من 12 مرة خلال فترة 8 سنوات، كل زيارة كانت تستمر من أسبوع إلى 3 أشهر، كنت أعمل في مجال رسم وتصوير الآثار منذ 40 عاماً، زرت بلداناً عديدة، لكنني أحببت كثيراً هذا البلد الذي كان يتوجع بكبرياء وشموخ، ولا يزال يتألم بصمت دون أن يشعر به العالم أو يرف لحاله ضمير الإنسانية… هكذا تقول المصورة الفرنسية هيلين ديفيد، معبرة بتأثر عن شغفها وحبها الكبير لليمن التي قضت فيه أجمل سنوات عمرها وفق تعبيرها، معتبرة بأنه بمثابة وطنها الثاني. وهيلين هي عالمة آثار ورسامة علمية، تهتم برسم القطع الأثرية، تقوم بتصويرها داخل متاحف ومواقع أثرية.

 

 

تروي هيلين فصول قصتها في اليمن السعيد قبل العام2011، لـ “العربية نت”، قائلة: “رحلتي الأولى إلى اليمن كانت عام 2000 إلى أحد المواقع الأثرية في الصحراء جنوب شرقي مأرب، وكانت الرحلة الأخيرة في العام 2008، كنت مهتمة بشغف استكشاف الشرق الأوسط، ووجدت في اليمن أنبل القيم الإنسانية التي اختفت من مجتمعاتنا الغربية “الحديثة”، أبرزها التضامن والتلاحم المجتمعي.

 

وبدا لي هذا البلد مختلفاً وفاتناً ببيئته الجبلية القاسية التي تفرض ظروف حياة صعبة على الناس، لكنها شكلت وعيهم وعجنت تجاربهم بعنفوان الطبيعة ورعونة التضاريس لتتنج معادن بشرية لا تصدأً ولا تتغير تماماً مثل قيمة الذهب.

 

إلى ذلك، كانت هيلين قبل العام 2002، تعيش في سوريا، لكن اليمن احتل بحسبها مكانة في وجدانها، مضيفة: ” لا أفوّت فرصة للعودة إليه سواء للعمل أو للاستكشاف والاستمتاع بأجوائه الخاصة، كما أحن كثيراً إلى طيبة أهله وشهامة أناسه الذين لا يعرف العالم عن جوهره الشعب شيئاً، سوى ثقافة “الجنبية” ولغة “الكلاشينكوف”.

 

وحسب هيلين، فإن سبب زيارتها إلى اليمن كانت بهدف العمل في الحفريات الأثرية وتوثيق المواقع التاريخية وإعداد الكتب للنشر، ثم اتجهت إلى تدريس التوثيق الغرافيكي والتصوير الفوتوغرافي للمخطوطات القديمة لعلماء يمنيين في الجامعة والمتاحف والمؤسسات الثقافية المختلفة، وتعرفت إلى مدير إحدى شركات الطباعة بصنعاء، اقترح عليها التقاط صور لنشرها في كتاب يحكي عن مدينة زبيد، وقام بترتيب رحلات لالتقاط مزيد من الصور عن مدينة حضرموت، وأماكن ريفية تقع على مرتفعات جبلية.

 

بسؤالها عن وجود قواسم مشتركة بين الثقافة الفرنسية واليمن، تقول هيلين: “الشعب الفرنسي يشارك مع اليمنيين في روح التمرد مع الالتزام بالقيم، ولعل هذه الحالة الذهنية هي التي جعلت الفرنسيين أبطال حقوق الإنسان، كما إنهم أيضاً يتمتعون بذوق فني لا مثيل له تماماً مثل اليمنيين الذين لطالما أعجبت بطريقة الرجال اليمنيين في ارتداء ملابسهم، وأسلوب اختيارهم لون وتصميم ملابسهم الشعبية وغطاء رأسهم إلى جانب براعتهم في تصميم أعمالهم المعدنية مثل الجنبية وصياغة المجوهرات وتطريز لباس المرأة، إلى جانب الهندسة المعمارية والديكور المذهل للمساجد والقصور والبيوت البسيطة، وحتى طريقة طبخهم المتقن والمتميز بوضوح عن نكهات البلدان المجاورة.

 

و تقول هيلين: “أستطيع أن أقول إنني لم أشعر أبداً بعدم الأمان أينما ذهبت في مدن وأرياف اليمن، حتى وربما بشكل خاص كامرأة تسافر بمفردها أحياناً، بينما لا أستطيع أن أقول نفس الشيء في بلدي فرنسا!. وتضيف: “من الواضح أن هناك مشاكل تتعلق بالسلامة في بعض الأماكن، ولكن كان هناك أشخاص مسؤولون كانوا حريصين على عدم تعرض زوارهم حتى السياح غير المعروفين للخطر أو حتى فقدانهم”.

 

وفيما يتعلق بإحساسهم بالمسؤولية، تخبرنا هيلين عن مسألة الأسلحة، فتقول: “في أوروبا يعتقد الناس أن بلداً كل فرد فيه يحمل سكيناً كبيراً ويمتلك كلاشينكوف يمكن أن يكون خطيراً للغاية، على الرغم من أنني لم أسمع أبداً عن أي شخص يتأذى من الجنبية “الخنجر”. فعندما كنت أعمل في منطقة بمأرب، التي كانت تشهد خلافات بين القبائل، وكان فريق علماء الآثار الأجانب تحت حماية مجموعة من الحراس الشخصيين ينتمون إلى قبيلة ثالثة، لضمان بقائهم على الحياد، وكان ضمن الفريق شاب إيطالي متحمس جداً للأسلحة، يتوق إلى الحصول على فرصة لإطلاق النار باستخدام أحد الأسلحة النارية! كان دائما يضايق حراسنا الشخصيين لأسابيع، متوسلاً إياهم السماح له بتجربتها لكنهم رفضوا، موضحين له أنهم لا يستخدمون أسلحتهم للتسلية، ذلك أن أي صوت إطلاق نار يعني شيئاً للناس، وقد يستنفرهم لاشعال التوتر.. وفي نهاية إقامتنا، سمحوا له بتجربة السلاح مرة واحدة، حتى لا يغادر وهو غير سعيد، ولأجل ذلك سافرنا منطقة تبعد نحو 20 كيلومتراً في الصحراء لنكون بعيدين قدر الإمكان عن أي شخص يمكنه سماع الطلقة.

 

قصة أخرى تجسد قيم جميلة يتحلى بها الأطفال اليمنيون، تقول هيلين: “فقدت حقيبة يد تحتوي عدة مئات من اليوروهات أثناء تواجدي في صنعاء، وقبل سفري إلى مدينة أخرى لبضعة أيام استعدتها بعد أسبوع بفضل أطفال عائلة فقيرة عثروا عليها وقضوا كل ذلك الوقت في البحث عني في المدينة، كان بإمكانهم فقط التفكير في أنني غادرت البلاد واستخدم هذا الكنز لتلبية احتياجات أسرهم، لكن صدقهم جعل ذلك مستحيلاً، لا يمكنك تخيل السعادة والراحة على وجوههم عندما وجدوني في شوارع صنعاء”.

 

وتؤكد هيلين قائلة:” لقد وجدت بصراحة احتراماً للنساء وتقدير لعملهن في اليمن أكثر من الدول الغربية، لكنني لا أستطيع أن أقول إن كل شيء إيجابي في اليمن تماماً كما هو الحال بالطبع في كل بلد”

 

وفي سياق الحديث، تخبرنا هيلين أن اليمن قبل 2011 ليست كما بعده، فقد أنهكتها الحرب والنزاعات، مشيرة: “لا يمكنني التحدث عن اليمن بعد الحرب لأنني لم أزرها مؤخراً، لكن الدمار الذي أسمع عنه هو خسارة مأساوية للثقافة الإنسانية. قلة من الناس يعرفون مدى ثراء هذا البلد ثقافياً بشكل لا يصدق، من المحزن أن نرى كيف يُعاملون، عندما يكونون أشخاصاً طيبين وودودين ومضيافين وأذكياء وأقوياء الإرادة، وكيف تم التغاضي عن مساهمتهم في الحضارة الإنسانية دائماً بشكل غير عادل.

 

وتعبر هيلين بحرقة: “اليمن الذي رأيته قبل الحرب، بفضل عملي في الصندوق الاجتماعي للتنمية، كان في طريقه إلى تحسينات كبيرة، والأهم من ذلك أنه من الداخل من جوهر ثرواته نفسها، حيث لم يكن هناك الكثير من المساعدة من الدول الغنية، كانت طاقة الشعب اليمني لتحديث وتطوير بلدهم مذهلة بكل بساطة. إنها مأساة أن يتوقف هذا التحرك الإيجابي، ويخشى أن يعود البلد عشرات السنين إلى الوراء”.

 

لا تخفي هيلين نيتها بالتفكير في زيارة اليمن مرة أخرى، حيث تعبر عن حنينها قائلةً: “من منا لا يريد العودة إلى اليمن بعد زيارته الأولى، لديّ ارتباط خاص بمدينة زبيد الأقرب إلى قلبي، حيث مكثت عدة أسابيع مع عائلة، لعملي، ومنارة ومسجد الإسكندرية هما الأجمل في العالم في نظري، ويسكنني شوق كبير لمدينة صنعاء، ومدينتي تعز وعدن”.

 

لهيلين رسالة تود نقلها إلى العالم عبر صورها عن اليمن، تقول: “أسعى الى إبراز جمال ومكنونات هذا البلد، ومظاهر تطور ثقافته والإنسان المذهل الذي يقف وراءه – وتعريفهم بالجانب الحضاري المضيء لهذا الشعب، لكسر الصور النمطية عن بعض سلوكياته المتداولة، فهذا الشعب مظلوم إعلامياً حقاً فهو بحاجة لاستكشاف جوهره الحقيقي من جديد فهو يمتلك مقومات ثقافية وإنسانية كثيرة”.

 

وتضيف:” لا يمكن اختزال اليمن وشعبه بأنه الأكثر فقراً بين دول الشرق الأوسط، فكيف يمكن للأشخاص الذين نحتوا الجبال لقرون ناهيك عن “آلاف السنين” لتحويلها إلى مدرجات زراعية خصبة يصل ارتفاعها إلى 3000 متر ، أن يعتبروا غير مهمين