في مطلع عام 1996 زرت واحدة من الغابات المعروفة باسم "السفاري" في جنوب أفريقيا للتعرف إلى نمط حياة الحيوانات المفترسة وغيرها من الحيوانات مثل الأسود، والنمور، والفيلة، والتماسيح، والقردة التي تعيش طليقة وسط غابات مترامية.
كان البرنامج المعد لاكتشاف ما يدور في الأدغال يشمل رحلات عدة، إحداها في الصباح الباكر وأخرى في المساء للاقتراب من المكان الذي تعيش فيه الأسود وكيف يتعامل الأسد مع أنثاه والأشبال، ثم حين تبدأ رحلة البحث عن فريسة بعد الغروب. وفي عصر أحد أيام الرحلة النادرة، سرنا خلف قطيع ضخم من الفيلة يرتفع الغبار الكثيف ليغطي مسارها بوقع الكتل الضخمة والأوزان الثقيلة والأحجام المخيفة. وحين تتوقف فجأة تلبية لرغبة القائد، يشرح المرافق المسلح السبب المثير للاستغراب وهو أنه قد راقت له، وربما استفزته، ورقة خضراء في إحدى الأشجار العالية وأراد الوصول إليها ليلتقطها، وحين يفشل يقوم بمساعدة عدد من الفيلة بالضرب على جذعها وهزّ الشجرة الفارعة الطول بعنف حتى تسقط فيلتقط الورقة التي أراد ثم تعاود الفيلة مسارها.
أتذكر هذ المشهد وأنا أرى ما يحدث في تعز ومأرب والبيضاء وشبوة وغيرها من المدن اليمنية التي تتصارع فيها الأطراف اليمنية مستخدمة كل ما يصل إلى أيديها وامتلكته من عناصر القوة غير مدركة أنها إنما تدمر حاضر ومستقبل الأجيال القادمة، وتزرع بذور أحقاد وثارات سيدفع اليمنيون أثمانها لعقود طويلة. وربما جاء تقرير لجنة الخبراء الأخير ليبرهن بالتوثيق مدى المعاناة التي يرزح تحتها المواطن داخل الحدود اليمنية تمتد تبعاتها إلى مدن عربية خارجها بسبب الأطماع الشخصية التي أصبحت محركاً عند غالبية القيادات اليمنية التي تتمسك بمسار الحرب وسيلة مثلى لتحقيق أهداف جماعاتها.
واليوم، والحرب تقترب من اقتحام عامها الثامن من دون أن يتمكن أي مبعوث أممي أو خارجي من تحقيق اختراق يبعث بإشارة أمل لليمنيين الذين أرهقتهم سنواتها الطويلة في الداخل والخارج، وفي ظل عجز عربي فاضح ومثير للأسى لم تقم به، ولم تحاول، الجامعة العربية بأي جهد يبرر وجودها ونفقاتها الباهظة وترف موظفيها الذين يملؤون المبنى الضخم القريب من نهر النيل ومكاتبها في الخارج.
ما أعرفه حدّ اليقين هو أن كل العواصم العربية تريد وضع حد لهذه الحرب لكن لا يمكن تجسيد وتحويل الأمر إلى واقع من دون أن تبدي الأطراف، كل الأطراف، الجدية والرغبة الأكيدة في إغلاق هذا الملف المحزن. وقد كررت كثيراً أن المبادرة التي عرضها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وتراها جماعة "أنصار الله" الحوثية غير ملبية لمرئياتها، فإنها حتماً تضع إطاراً مرناً يمكن الاعتماد عليه في بلوغ الهدف الأسمى الذي يجتمع تحت سقفه اليمنيون. ولقد صار من الواضح أن إحدى تعقيدات الحرب أنها صارت تشكل منطقاً مختلفاً عن المنطق الذي بدأت به، وما يدور في اليمن ليس استثناء.
يمكن النظر إلى ما حدث في أفغانستان وما يحدث في سوريا كمثالين صارخين ماثلين أمامنا اليوم.
في نهاية ديسمبر (كانون الأول)، من عام 1979، قرر الاتحاد السوفياتي إرسال قواته إلى أفغانستان لمساندة النظام الشيوعي الجديد وانغمس في حرب طويلة أنهكته مالياً وسياسياً، وكانت المقدمة لانهياره ونقطة تحول في التاريخ المعاصر، اضطر بعدها إلى الانسحاب النهائي في فبراير (شباط) 1989 فاتحاً المجال أمام القوى الإسلامية الأفغانية التي كانت الولايات المتحدة تسلحها وتدربها بينما تركت أمر التمويل على الدول العربية النفطية.
شكل الخروج المهين للقوات السوفياتية والخسائر البشرية والمادية بداية الانهيار الذي ضرب الإمبراطورية السوفياتية، وكان من نتيجة ذلك تفككه وتحوله لسنوات طويلة إلى دولة منهكة تمتلك قوة نووية عظيمة واقتصاداً هزيلاً لا يمكّنها من دعم تواجدها على المسرح الدولي. وفي الوقت نفسه، بلغ حجم الدمار الإنساني والنفسي في أفغانستان حداً بقيت آثاره ماثلة حتى اليوم.
أحدثت الهزيمة السوفياتية فراغاً مذهلاً لم تجد القوى الدينية صعوبة في ملئه لكنها تناحرت في ما بينها إلى أن برزت حركة "طالبان" المدعومة من باكستان وتمكنت من السيطرة على مجمل الأراضي الأفغانية في عام 1996 إلى 2001 حين قامت الولايات المتحدة بغزو البلاد، وهزيمتها بعد اتهامها بإيواء تنظيم "القاعدة" الذي كان يتخذ من الأراضي الأفغانية مقراً له. بعد ذلك، تم تشكيل حكومات موالية للغرب وفرض نظام حكم هجين لم يتمكن من السيطرة على البلد ولا تقديم الخدمات، واعتمد كلياً على الدعم الأميركي، وفي المقابل، استشرى الفساد وصار قاعدة للحكم وبقي المواطنون يعيشون في فقر مدقع.
وحين قررت الولايات المتحدة ترك البلد لمصيره، شاهدنا جميعاً اللحظات الأخيرة البائسة واليائسة بعد فرار القادة الكبار بما غنموا من الثروات مخلفين الفوضى والمجهول. وهو درس يكرره التاريخ لنا بأن الدول والأنظمة لا يمكن لها الاستمرار بالدعم الخارجي فقط مهما بلغت قوته وكلفته وإنما بالسند الوطني الذي لا يمكن الحصول عليه إلا بالاقتراب من الناس وحمايتهم والعمل من أجلهم.
ثم هناك المثال الآخر في سوريا.
لا يمكنني بأي حال الدفاع عن النظام السوري ولا عن خصومه ولا تبرئتهم من الجرائم التي ارتكبوها جميعاً بحق الشعب وتدمير مدن بأكملها. إنما يجب القول أيضاً إنه نظام ما زال يتمتع بسند شعبي لا أعرف حجمه، وما زال متماسكاً على الرغم من الضربات القاسية التي تعرّض لها. والأهم من ذلك، أن أعداداً قليلة من القيادات هي التي انشقت عنه وانضمت إلى المعارضين، ولكنها سرعان ما فقدت مصداقيتها سريعاً وتوارت.
اليوم، صارت دمشق تستقبل ممثلين لدول ساندت المعارضة مالاً وتسليحاً لكن بقاء رأس النظام وإصراره على عدم مغادرة بلاده أحدث الفارق في تماسك بقية أجنحة نظامه. وأعلم أنه لولا الدعم الروسي والإيراني و"حزب الله" لكان النظام قد سقط مبكراً، ولكن الواقع يقول أيضاً إنهم كانوا يتعاملون مع نظام يعيش داخل البلاد وليس ضيفاً ثقيلاً على هذه العاصمة أو تلك وتحت رعايتها وحمايتها.
قصة رحلة الفيلة اليومية يجب قراءتها والاستفادة من أن البلدان يمكن هدمها بسهولة من أجل ورقة صغيرة، ولكن إعادة بنائها لن تحدث من الخارج مهما كانت المغريات. ولعل خروج الفيل الأميركي من أفغانستان درس لمن يعتمد على الخارج ليعيده إلى الداخل ويضمن بقاءه وحياته