واجه اليمنيون على امتداد تاريخهم صعوبة تضاريس بلادهم الطبيعية التي شكلت تحدياً حقيقياً لإقامة كيانات سياسية مستقرة، واجهوا ذلك التحدي بجملة من الوسائل التي أدت إلى التواصل الحضاري في بلد تحاول الجغرافيا أن تعمل فيه أثرها. كان في مقدمة تلك الوسائل مدُّ شبكات من الطرق والجسور التي سهلت تنقلات البضائع والناس والثقافات واللهجات داخل اليمن وخارجه، الأمر الذي أسهم في عمليات الدمج المجتمعي الذي – بدوره – ساعد على تشكيل كيانات سياسية اعتمدت على الطريق، كشريان حياة اقتصادي، ونسغ قربى اجتماعي، ودليل تواصل حضاري، وقد اعتمدت الكيانات السياسية القديمة نظم حكم وازنت بين المركز والأطراف، إذ يصعب قيام سلطة مركزية قوية لا تعطي الأطراف نوعاً من الاستقلالية الإدارية، في بلد تلعب فيه الجغرافيا الطبيعية على الضد من إرادة الجغرافيا السياسية.
ما هي قصة الطريق، وما الأثر الذي لعبه في حياة اليمنيين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟
قبل توحيد شطري اليمن عام 1990 كانت هناك صور نمطية – بعيدة عن واقع الحال – لأبناء كل شطر لدى أبناء الشطر الآخر، وقد تشكلت تلك الصور بفعل عوامل سياسية وإيديولوجية لم تساعد على إحداث التواصل المجتمعي بين الشطرين اللذين انقسمت بموجبهما الأسرة الواحدة على جانبي خط الحدود الفاصل قبل عام 1990.
لم تكن الحركة سهلة، ولم تكن شبكة الطرق كافية لإحداث التواصل المجتمعي المطلوب، وكان الضخ السياسي والإعلامي يساعد على تكريس صور نمطية عن مواطني الشطرين سابقاً لدى بعضهم، غير أن الحال تغيرت بعد توحيد الشطرين في عام 1990، وإذا كان من إنجاز يمكن الإشارة إليه بعد الوحدة، فهو ما شهده قطاع المواصلات من نهضة نسبية أدت إلى ربط محافظات البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ببعضها، وقد كان لهذا العمل أثر كبير، لا على المستوى الجغرافي وحسب، لكن على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والشعورية، حيث بدأت الصورة النمطية في الذوبان بعد أن سهلت الطرقات التي تم شقها تنقلات ولقاءات المواطنين على مستويات مختلفة، وظهر أن الفروق التي وضعتها عوامل الجغرافيا وأسهمت فيها الدعايات السياسية والإعلامية لم تكن فروقاً جوهرية، وفوق ذلك أحدثت شبكة الطرق تلك حراكاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، كان من الممكن أن يستمر، لولا أن تجربة الدولة اليمنية الفتية تعرضت لانتكاسة بسبب حرب 1994 التي لا تزال تلقي بظلالها على الواقع اليمني – سياسياً واجتماعياً – إلى يومنا هذا.
وعلى الرغم من آثار حرب 1994، إلا أن الطريق لعب دوراً مفصلياً في استمرار الحراك الاقتصادي والدمج المجتمعي فيما بعد، إلى أن اندلعت حروب صعدة في 2004، ثم جاء الحراك الجنوبي في 2007، لتكتمل السلسلة باحتجاجات 2011 وما تلاها من حرب مستمرة، عرَّضت شبكة الطرق والجسور إلى دمار كبير أدى إلى صعوبة بالغة في تنقلات المواطنين، خلال السنوات الماضية، الأمر الذي أسهم في عودة تدريجية للصور النمطية لدى اليمنيين عن بعضهم، وإن بشكل مختلف عن تلك الصور النمطية التي سادت قبل الوحدة.
حكاية الطريق هذه لا تعدو كونها تكراراً للقصة ذاتها التي حدثت قبل آلاف السنين في اليمن القديم، حيث كانت عوامل الجغرافيا تفصل الكثير من المناطق اليمنية في السهول والسواحل والمرتفعات والصحارى عن بعضها، غير أن الإنسان اليمني واجه تلك التحديات بشق الطرق وبناء الجسور، الأمر الذي أدى إلى حراك اقتصادي نشط أسهم – مع مرور الزمن – في دمج المجتمعات المحلية، وإعادة تشكيل العلاقة بين تلك المجتمعات والحكم المركزي، وعملت طرق القوافل القديمة على ربط مصالح القبائل والتجمعات السكانية المختلفة ببعضها، بعد أن مدَّ السبئيون والمعينيون وغيرهم طرق قوافلهم عبر البلاد، ومروراً بوسط الجزيرة، وصولاً إلى شمالها في بلاد الشام، حيث كانت منتوجات اليمن والبلدان المطلة على المحيط الهندي تسافر عبر طرق بحرية وبرية في قوافل تجارية محملة بالمنتجات التي تتطلبها حضارات الشمال من بخور وأنسجة ومصوغات، الأمر الذي لم يعمل على توحيد مكونات المجتمع اليمني القديم وحسب، وإنما أدى إلى نوع من التقارب لدى قبائل وسط وشمال الجزيرة التي كانت لها مصالح تجارية في توسع طرق التجارة شمالاً وشرقاً.
وبالإضافة إلى عناية اليمنيين بالطريق لتكريس الاتحاد السياسي والاقتصادي، لجؤوا إلى مواجهة الطبيعة التضاريسية والمناخية في البلاد بإقامة السدود، لتجميع المياه لتعوض خلو البلاد من الأنهار الكبيرة المتدفقة، كما هو الحال لدى الحضارات المائية في العراق ومصر والشام. وقد كان للسدود والقنوات وأنظمة الري القديمة أثر كبير في نشاط زراعي واسع كان له أثر في تفعيل الحراك التجاري الذي لم يكن بدوره يخلو من آثار اجتماعية وأهداف سياسية، أسهمت في صياغة ملامح الحضارة اليمنية القديمة، وفي تكوين الخصائص اللغوية والثقافية والدينية للقبائل التي سكنت في «العربية السعيدة».
وفوق ذلك لجأ اليمنيون إلى نظام حكم أشبه ما يكون بالنظام الاتحادي الحديث، حيث كان مجلس الحكم يضم ممثلين عن القبائل والأقاليم المختلفة بقيادة الملك الذي يعد رأس السلطة المركزية، وهو النظام الذي كان مناسباً لطبيعة الجغرافيا البشرية والسياسية في تلك البلاد التي يصعب فيها قيام سلطة مركزية قوية لا تعطي الأقاليم شيئاً من الاستقلالية الذاتية في إدارة شؤونها الاقتصادية والاجتماعية، ضمن نظام اعتمد الاقتصاد وسيلة توحيد سياسي، والطريق وسيلة تواصل اقتصادي واجتماعي وثقافي، الأمر الذي ساعد على تشكيل ملامح الهوية العربية اليمنية عبر التاريخ.
وبمقابل هذه التجارب الناجحة في المنظومات السياسية والاقتصادية والثقافية كانت هناك فترات انحدار أعقبه انهيار الدول اليمنية القديمة، ذلك الانهيار الذي جاء في معظمه بسبب عوامل داخلية صرفت اليمنيين إلى معارك بينية أهملوا بها التركيز على عوامل التوحيد السياسي والاقتصادي، فكان أن جنت الحرب على الاقتصاد، وأدى ذلك إلى ضعف السلطة المركزية التي تقلصت مع تزايد الطموحات السياسية للأطراف في الانفصال، ليأتي التدخل الأجنبي الفارسي والحبشي، مكملاً ما بدأته الحروب الأهلية الداخلية، لينتهي اليمن مستعمرة فارسية قبيل ظهور الإسلام.
واليوم، وفي ظل الظروف التي تمر بها البلاد، ينبغي أن يعي اليمنيون أن فتح وإعادة بناء وترميم الطرقات والجسور التي دمرتها الحرب يعد من أهم عوامل إعادة التواصل اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، كي يعود اليمنيون للتدفق محملين بالبضائع والأفكار والمشاعر، عبر الطرقات التي تشكل عصب التحول الاقتصادي، الذي يشكل – بدوره – المدخل للتحولات السياسية والاجتماعية والقيمية المطلوبة.
وفي المجمل، يبدو أن المعضلات القديمة هي المشكلات الجديدة، وأن الحلول اليوم لا تختلف كثيراً عن الحلول أمس، وهو ما يحتم على اليمنيين استلهام تجاربهم التاريخية، بدلاً من الجري وراء أوهام حلول يأتي بها المجتمع الدولي الذي لن يجلب لليمنيين السلام، ما دامت مصالح بعينها قائمة على استمرار هذه الحرب المدمرة، وما دام المبعوثون الدوليون يأتون من خلفيات ثقافية بعيدة عن طرق تفكير اليمنيين وثقافتهم ووسائلهم التقليدية في المصالحة وفض النزاعات