لقد مرت خمسمائة عام على الثورة ضد الكهنوت في أوروبا الذي جسد التعصب والتشنج والعنف واحتكار الإيمان بصكوك تدخل الجنة أو النار ، وبعد معركة فكرية وعلمية خاضها العلماء والفلاسفة ضد الكهنوت ، تأتي أمريكا وأوروبا ليعيدوا اليمن إلى حكم الكهنوت الإمامي الذي يقدم نفسه على أنه مجموعة من الترتيبات السلطوية التي تحتكر الحقيقة ، سواء كانت حقيقة المعرفة الدينية أو الدنيوية أو أسرار الحكم وأسرار الكون ، فهو وحده يعرف الخير والشر والحلال والحرام والوطني والخائن والعميل .
تزعم أمريكا على أنها حريصة على السلام في اليمن ، وهي لا تقدم ما يثبت ذلك الحرص ، بل كل ممارساتها تدل على أنها تشجع هذا الكهنوت على حساب الديمقراطية التي انتهجها الشعب اليمني ومارسها لأكثر من عقدين من الزمن ، وتمنع هزيمة هذا الكهنوت بكل الوسائل المتاحة وتحت المزاعم الإنسانية ، لكنها تبيح دماء اليمنيين للكهنوت في مأرب وشبوة وتعز والبيضاء والجوف وغيرها من المدن ويغيب الجانب الإنساني ، بما يؤكد أن هذا الكهنوت يمارس دورا وظيفيا تم صناعته في أمريكا .
لا أعتقد أن الإدارة الأمريكية نسيت أن أمريكا وأوروبا انطلقتا بعد أن احتكمتا للعقل ورفضتا الأسطورة والخرافة ، وفجرتا الثورة الأمريكية والفرنسية اللتان أحرقتا صورو الكهنوت ومن يتدثر بهذا اللباس المقيد للعقل ولحريات البشر ، لكنها تتجاهل ذلك في اليمن عمدا وتريد سلاما مع كهنوت يقدم نفسه على أنه يحكم نيابة عن الله ويقيم المآتم على من مات منذ ١٤٠٠ عام .
لقد حاولت أمريكا وبريطانيا منع هزيمة الكهنوت الحوثي حتى لا يظهر خواؤه الحقيقي أمام فعل شعبي جمعي ، فأوعزت للدول الإقليمية أن تمزق الأحزاب والقوى السياسية التي نشأت في الأساس وفق مرجعيات خارجية ، حتى المؤتمر الشعبي العام الذي نشأ بعيدا عن المرجعيات الخارجية انظم مؤخرا إلى قائمة التبعية وتوزع بين المحاور المتصارعة ، كل هذا التشظي ساعد الكهنوت الحوثي على البقاء والصمود كل هذه السنوات .
كشفت أمريكا ومعها أوروبا عن وجهها القبيح في دعم الكهنوت الذي دفعت البشرية ثمنا باهضا من دمها لإسقاطه وتحرير الإنسانية منه وتخلت أمريكا ومعها أوروبا عن دعم التعددية السياسية والديمقراطية وحماية الإرادة الشعبية لتتحدث عن سلام مع جماعة تميز نفسها عن الشعب اليمني سياسيا كونها أحق بالحكم ودينيا كونها تملك وصية من الله وجينيا كونها تنتسب إلى سلالة النبي واقتصاديا كونها تحصل على خمس ما يجنيه المواطن اليمني من عرق جبينه .
وفي الأخير لولا هشاشة الأحزاب والقوى السياسية اليمنية وعدم ارتباطها بهويتها وكذلك ضعف القائمين على إدارة الشرعية لما استطاعت أمريكا ولا غيرها أن يعبثوا بإرادة اليمنيين ، لكن هذه الأحزاب والسلطة الممسكة بزمام الشرعية مجرد شكل من أشكال السلطة الفارغة من المضمون .
مهما حاولت أمريكا أن تحمي هذا الكهنوت ، فإن مصيره السقوط ، ولكي يعيد المجتمع اليمني بناء علاقاته وبناء السلطة التي تحكمه وتتحكم به ، عليه أن يكتشف خواء هذا الكهنوت ، وأن الخلافات البينية هي التي تبقي عليه وأنه أوهن من بيت العنكبوت ، ولقد أسقطه الآباء قبل ٥٩ سنة بإمكانيات بسيطة ، ونحن نمتلك اليوم إمكانيات أفضل بكثير من إمكانيات تلك الفترة ، نحتاج فقط إلى ضباط أحرار ورجال أعمال أحرار يفكرون باليمن ولا يفكرون بالسلطة