تأخذني الرهبة كلما شرعت بالكتابة عن الشهيد العميد ناجي بن ناجي عايض رحمه الله وطيّب ثراه.. حزنٌ مجلّلٌ بالمهابة، وألمٌ ممزوجٌ بالفخار.
ذات الصدمة التي أصابتني يوم علمت باستشهاده في مثل هذا اليوم العام الماضي.. لم تغادرني نظرة عينيه في اللقاء الوحيد الذي جمعنا قبل نحو عامين من وداعه المهيب.
في ذلك اللقاء أدركت أنني أمام شخصية عسكرية فذة رغم حداثة سنه.. يفرض عليك احترامه في الدقائق الأولى من اللقاء ويفرض على النقاش منحى جاداً ومسؤولاً لا يقبل الهزل.
سنبلةٌ ملأى.. "والفارغات رؤوسُهن شوامخُ".. ينصت إليك بأذنيه وعينيه وقلبه وعقله.. ثم يعقّب بجملة جامعة مانعة لا تغادر الذهن. باختصار: شخصية آسرة وكاريزما فطرية مع لمسة من الحزن النبيل النابع من استشعار عميق للمسؤولية.
هذه السِّمَة لا تتوفر إلا في قائد حقيقي أعد نفسه جيداً وأعدّتهُ الأحداث والخطوب ليكون نموذجاً للقائد الشاب الذي يؤمن بقضيته ويحب وطنه ويفدي شعبه.
تأتي الأيام لتبثت صدق الانطباع الأول الذي تركه في نفسك هذا القائد الشاب.. ويحل خبر استشهاده كالصاعقة على قلب كل من يعرفه.. وهنا محور الألم الكبير لأن قائداً كهذا كان ينبغي ألا يكون في الصفوف الأمامية مهما كانت رغبته في ذلك، ذلك أن هذا النوع من الشخصيات هم قادة المستقبل الذي ينبغي الحفاظ عليهم في حدقات العيون. ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا.
من ذلك اللقاء الوحيد، ومن سيل الشهادات الطيبة التي تقرأها وتسمعها عنه من زملائه ورؤسائه ومرؤوسيه وأقاربه، تكتشف أن الخسارة برحيله كانت أكبر مما كنت تظن.
إجماع منقطع النظير على شخصيته الفذة التي جمعت بين التكوين الوطني المتنور، والنشأة الأخلاقية العالية، والزاد القرآني المضيء، والإلمام الاجتماعي الواسع، والتأهيل العسكري المتكامل، مضافاً إلى كل ذلك الروح الشابة المبادرة والظرف الوطني العصيب الذي صقل كل ذلك وجعل من ناجي بن ناجي عايض خلاصةً خالصةً لنجابة الإنسان اليمني المؤمن بربه، والمحب لوطنه وشعبه، والصادق مع قضيته، والوفي مع قادته وجنوده.
من واقع الكلمات والقصائد المؤثرة في أربعينية الشهيد بمدينة مارب، ومن الشهادات المتطابقة التي سمعناها عبر حلقة خاصة عنه في برنامج "قصة بطل" الذي بثته الفضائية اليمنية، قدّم قادة وزملاء وجنود وأقرباء العميد الشهيد صورة فريدة عن قائد فريد يقلّص الفارق دائماً بينه وبين جنوده.. مقدام يشكّل قدوة في الشجاعة والفداء، نشيط لا يكل ولا يمل، هادئ لا يحب الضجيج ولا تستهويه الأضواء، عقلية نظيفة تثبت الأحداث صحة توقعاته، ذهن متوقد لا يكفّ عن ابتكار الحلول، دقيق في مواعيده وصادق في وعوده، يعرف كيف يفكر العدو ويسبقه دائما بخطوة. خلوق لا تسمع منه إلا الطيب والمفيد.. ابن بار بوالديه وأهله وأب صالح لأبنائه.
ولا عجب أن تجتمع هذه الخصال وغيرها في شخصية شابة في أواخر عقده الثالث، إذ أن مدرسة ال٢٦ من سبتمبر أنجبت قبله الشهيد القائد علي عبدالمغني طيب الله ثراه، مهندس أيلول الذي فجّر ثورة الألف عام ضد كهنوت الإمامة الغازية عدو اليمن أرضاً وإنساناً. وكلاهما استشهد على نفس المبدأ وضد نفس العدو، رحمهما الله رحمة واسعة.
هذه الصفات وغيرها تجعل من العميد الشهيد رمزاً نضالياً ينبغي تدريس سيرته للأجيال.. ومن تمام الوفاء أن يطلق اسمه على ألوية ودفعات عسكرية ومرافق عامة، لكي يظل نموذجاً ملهِماً للتضحية والفداء.
حقَّ للعسكرية اليمنية أن تفخر بالشهيد ناجي عايض، وحقّ لسبتمبر المجيد أن يفخر به، وحقّ لصنعاء ولخولان الطيال أن تفاخر به، وهنيئاً لهذه الأرض الطيبة التي رواها بدمائه الزكية.
الشهيد العميد ناجي بن ناجي عايض فخر الشهداء الشباب، ونموذج للأرواح الغالية التي يقدمها شعبنا اليمني العظيم في سبيل كرامته وانعتاقه وأرضه ودينه وعرضه، في هذا المنعطف المفصلي الحاسم.
الرحمة للشهيد العميد ولكل شهدائنا الأبرار الذين قدموا أرواحهم قرابين العزة لليمن العزيز الذي ليس يغلى عليه دم.
رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته، وإنا على دربهم سائرون ولتضحياتهم محافظون، ونسأل المولى القدير أن يجمعنا به في مستقر رحمته في مقعد صدق عند عزيز مقتدر.