منذ اندلاع أحداث 2011م، شهدت أغلب الجمهوريات العربية وضعا مضطربا مخضبا بالدماء ، ودوامة العنف والتهجير ، والانهيار الاقتصادي ، الذي وسع من دائرة الفقر والجوع ، كما انقسم النظام السياسي العربي لقسمين : مؤيد للحراك الجماهيري ؛ نكاية بالأنظمة الحاكمة المثار ضدها ، ومعارض خشية انتقال عدوى إسقاط الأنظمة لبقية البلدان العربية ، الأمر الذي ألقى بتبعاته على الشارع العربي ، في البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية ، هي في حسابات المناصر لها ثورة وعند المعارض انقلاب ، ومن ثم تحول الشارع وجماهيره لأداة بيد المتصارعين ، وتوسعت دائرة الاستقطاب ؛ ليتحول الجميع لمنفذي رغبات الخارج ، بل أحجار شطرنج في ميدان تصفية الحسابات بين اللاعبين الكبار .
اشتدت حدة الأزمة بين النظام الحاكم ومناصريه والمعارضة ومؤيديها ، في بعض البلدان العربية كاليمن وسوريا وليبيا ، لتصل لحرب أهلية ، ذات أبعاد ومطامع خارجية ، بينما في بقية البلدان كتونس مثلا تراجع النظام الحاكم للوراء قليلا ، ليبدأ صراع من نوع آخر بمخالب جديدة ، وبدأ كل فريق يستخدم أدواته في الاستيلاء على أكبر قدر من المكاسب السياسية ؛ تضمن له السيطرة على مفاصل القوة ؛ لتحميه من أي إنكسار .
تشكلت سلطات جديدة مهجنة بين نظام حاكم ومعارضة ؛ فزاد الفساد ، وبقيت أحلام الناس في التغيير للأفضل في علم الغيب ، بل زادت أوضاع الناس سوءا ، وفي ظل هذه الأجواء فقدت القوى المطالبة بالتغيير مصداقيتها، وأصيبت في مقتل، ليجد المواطن العربي نفسه ، لم يستفد شيئا بمشاركة قوى التغيير في السلطة أو وصولها لسدة الحكم، ما هيأ الظروف وجعل جزءا من الشارع العربي ، يقبل ويؤيد أي مخرج من دوامة الاحتقان والفوضى ، ولو كان على حساب الحد من الحقوق والحريات ، فالشارع العربي أرهق ، ولم يعد بمقدوره تحمل مزيد من تنازع السلطات ، بين قوى متصارعة همومه خارج دائرة اهتمامها ، ولا يعني لها شيئا إلا بمقدار ما تستفيد منه ، في إثبات حضورها والضغط على الخصم .
البنى الفكرية والحوامل السياسية ، التي تحرك وتقود ما يسمى بالثورة أو الانقلاب في العالم العربي ، همها الوحيد استغلال حاجات الناس والوصول للسلطة ، دون أن تمتلك مشروعا يخدم الناس دون أي تمييز ، ودون أن تقدم خطابا مطمئنا للمجتمع بكافة أطيافه ، متعللة بظروف داخلية ومؤامرات خارجية ، لقد أضحى المشهد السياسي العربي بشقيه الثوري والانقلابي أدوات للخارج ، لا أقل ولا أكثر ، وحواضنه الفكرية والسياسية ذات نزعة إقصائية ، تستغل الفراغات الاقتصادية والتصدعات المجتمعية والسياسية ؛ لتهييج الجماهير خلفها ؛ للحفاظ على مصالحها ،لنكتشف بالأخير أن الجماهير في نظر الثوريين أو الانقلابيين أوراق ضغط ، لا غير ؛ للحفاظ على كيان القوى المتصارعة بشقيها الانقلابي والثوري .
ليست المشكلة في مسمى الثورة أو الانقلاب ، ما يراه البعض ثورة يراه الآخر انقلابا ، والعكس صحيح ، المشكلة تكمن في الفكر الذي يقود الثورة أو الانقلاب ، في الأهداف التي تحركه ، والغايات التي يريد الوصول لها، وفي موقفه من الإنسان كان مؤيدا أو معارضا .
أصبح من الضروري أن تراجع القوى المتصارعة حساباتها ، وأن تعلي من مصلحة الشعوب العربية ، بدلا من تسجيل أهداف في مرمى الخصوم ، وأن تقدم تنازلات ، تحافظ على كيانها السياسي ، أفضل من حصولها على مكاسب سياسية آنية ، ستخسرها في أول اختلاف مع شركائها في السلطة .
#عبدالواسع_الفاتكي