في العصور الوسطى المسيحية ابتدعت الكنيسة الكاثوليكية فكرة «صكوك الغفران» لأغراض سياسية واقتصادية بحتة. وتقوم الفكرة على أساس أن يأتي المذنب إلى الكاهن ويعترف بذنوبه لكي «يطهره» الكاهن مقابل مبلغ من المال يدفعه المذنب للكنيسة التي تمنحه صكاً باسم البابا بوصفه «نائب المسيح» بغفران الذنوب. وعندما نجحت الفكرة، وامتلأت خزائن الكنيسة زاد جشع الكهنة فطوروها لتشمل منح الصكوك للموتى الذين لم يحصلوا عليها في حياتهم، حيث يدفع أقاربهم مبالغ مالية نيابة عن الأموات مقابل تلك الصكوك التي تفتح لهم أبواب السماء.
واقد بُنيت فكرة «صكوك الغفران» على عقيدة «المسيح المخلص» حيث دفع المسيح حياته ثمنا لتخليص الإنسان من الخطيئة، وفقاً لهذه العقيدة. وبما أن البابا يجلس على «كرسي المسيح» فإنه ورث عنه مزية «التطهير» كما ورثها القساوسة والكهان، مع فارق أن المسيح عاش زاهدا في حين أن «صكوك الغفران» كانت باباً دلفت منه الكنيسة الكاثوليكية إلى كنوز الأرض.
وقد لعبت «صكوك الغفران» دوراً كبيراً في الدفع بعشرات آلاف الكاثوليك للمشاركة في الحروب الصليبية ضد المشرق العربي، بعد أن أصل البابا أوربانوس الثانى الذى توفى فى عام 1099 لهذه الفكرة التي دفعت بآلاف الفقراء المسيحيين للذهاب للشرق حاملين «صكوك غفران» مقابل «الحرب المقدسة» التي يخوضونها ضد «المسلمين الكفار الذين يدنسون مهد المسيح ويضطهدون خرافه الوديعة في بيت المقدس» الأمر الذي أسهم في إنجاح كثير من الحملات الصليبية التي تكشفت عن أبعاد استعمارية لا علاقة لها لا بالمسيح ولا بديانته ولا بالجنة ونعيمها أو بالخلاص والتطهير، في توظيف نفعي بشع لتعاليم المسيح الذي ندد بـ«أبناء الأفاعي» الذين حولوا «الهيكل» إلى «بازار» خالفوا فيه الوصايا القديمة التي يعلمونها للناس.
ولما جاء الإسلام، سار النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سيرة المسيح عليه السلام في تحريم استعمال الدين لأغراض نفعية، وندد القرآن الكريم بـ«الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً» وجاء في الآية 43 من سورة التوبة: «يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله…» وواجه النبي «كهنة الكعبة» كما واجه المسيح «سدنة الهيكل» الذين حولوا التعاليم إلى تجارة والشريعة إلى سياسة، وأفرغوا الدين من محتواه الروحي ومقاصده الأخلاقية إلى مجالات نفعية اقتصادية وسياسية في يد طبقة من رجال الدين من الأحبار والرهبان والكهان.
ومع ذلك فقد شهدت ممارسات بعض الفرق والطوائف في الإسلام ضروباً مختلفة من المتاجرة اقتصادياً وسياسياً بالإسلام، كما شهدت أديان كثيرة تحولات مختلفة فرضتها المؤسسات الدينية المرتبطة بالسلطة السياسية لغرض تكييف الدين بشكل نفعي لخدمة أهداف تناقض طبيعة الأهداف الروحية السامية.
وهنا يمكن مقارنة فكرة «صكوك الغفران» الكهنوتية بفكرة «مفاتيح الجنة» الخمينية التي شاعت في فترة حرب الثمان سنوات بين إيران والعراق، كمثال واضح على تشابه أساليب التوظيف النفعي للدين بين الكهنة والملالي، حيث ابتدع الراحل الخميني فكرة «مفاتيح الجنة» التي كانت تعطى للمقاتلين الإيرانيين الذاهبين للحرب ضد «حزب البعث العربي الكافر، لحماية ضريح الإمام علي والمراقد الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء» ضد «نواصب السنة» وهي الفكرة التي تشبه إلى حد كبير فكرة «صكوك الغفران» المسيحية التي أسهمت بشكل كبير في تأجيج «الحروب الصليبية المقدسة ضد المسلمين الكفار، لحماية مهد المسيح والأماكن المسيحية المقدسة» كل ذلك لأهداف نفعية تخدم المؤسستين المتسلطتين باسم «ضريح الإمام» ومهد المسيح».
واليوم، تشهد المنطقة العربية انهيارات كبيرة وتصدعات جسيمة على مختلف الصعد بفعل حروب تبدو في ظاهرها دينية/مذهبية، وهي في الحقيقة سياسية اقتصادية، حيث وظفت طهران عشرات آلاف المقاتلين باسم «علي وأهل البيت» لضرب الدولة الوطنية في العراق واليمن ولبنان وسوريا، لصالح مشروع استعماري توسعي ليس له علاقة بالإمام علي، كما لم تكن للحروب الصليبية أية علاقة بالسيد المسيح.
إن تماهي الفكرتين يبدو جلياً في الأسس العقدية والأبعاد النفعية سياسياً واقتصادياً، حيث يمكن أن يؤدي حب السيد المسيح» إلى الخلاص فيما يؤدي حب «الإمام علي» إلى الجنة، شريطة القيام بواجبات معينة يحددها أولئك الذين يشغلون منصب «نائب المسيح/البابا» أو «نائب الإمام/المرشد» وهي مناصب اختلط فيها الديني والسياسي بشكل أو بآخر.
وإذا كانت صكوك الغفران قد استمرت لقرون عديدة، فإن أفكار رجال دين كبار مثل مارتن لوثر قد مهدت الطريق للتخلص منها، بعد أن اقتبس لوثر الكثير من طروحاته ـ في رفض وجود وسيط كهنوتي بين الله والإنسان ـ من المدرسة الإسلامية في الأندلس، حيث أعلن بطلان فكرة الصكوك وتحدث عن «ذاتية الخلاص الروحي» حيث المسؤولية الفردية والخلاص الذاتي دون وسيط كنسي حتى ولو كان البابا نفسه، وهو ما أثار غضب البابا الذي أعلن طرد لوثر من الكنيسة، وأعلنه مارقاً مهرطقاً، وبموجب ذلك طلب شارل الخامس من لوثر التراجع، غير أن لوثر رفض التراجع في رسالة جاء فيها:
«أنا ملتزم بالنصوص المقدسة التي أوردتها وبما يمليه عليّ ضميري الذي هو أسير لكلمة الله لأني لا أثق فـي البـابا أو المجالس وحدها، فهؤلاء غالبًا ما يخطئون ويناقضـون أنفسهم. أنا لا أستطيع ولن أستطيع أن أرجع عن أي شيء، لأنه ليس صحيحًا ولا صدقًا أن يخالف الإنسان ضميره، أنا لا أستطيع أن أفعل غير ذلك» ( الإصلاح الديني: الموسوعة المعرفية الشاملة، 2007).
وإذا كانت حركة الإصلاح البروتستانتي قد تجاوزت فكرة «الخلاص الكهنوتي» وصكوك الغفران ومركزية الكنيسة عند الكاثوليك إلى «الخلاص الذاتي» كي لا يلجأ المذنبون إلى الكنيسة بمبالغ مالية للتكفير عن الخطايا فإن المقولات الشيعية في حاجة إلى تجاوز فكرة «مفاتيح الجنة» ومركزية الحوزة التي احتكرت لقرون تفسير الإسلام ومقولات «أهل البيت» جاعلة من نفسها مؤسسة دينية ذات سلطة بابوية بشكل أو بآخر، حتى أصبحت جزءاً من منظومة سياسية سخرت التشيع لصالح نخب دينية وسياسية فاسدة ترى أنها مفتاح الفهم الصحيح لمذهب أهل البيت، وأنها حاملة مفاتيح الجنة وجواز السفر إليها.
وهنا ـ فقط ـ يمكن وقف عمليات التجريف السياسي للقيم الدينية، ووقف التوظيف النفعي لـ«ضريح الإمام» الذي تم استنزافه في حروب إيران «الشيعية» ضد جوارها كما تم استنزاف «مهد المسيح» من قبل في حروب أوروبا «الصليبية» ضد المشرق العربي في العصور الوسطى