في معاناة من يحارب الفساد .....
لقد صحوت اليوم باكرا كعادتي نحو المؤ سسة التي أديرها ، وبعد أن قمت بجولتي الصباحية في أروقة الكلية وحدائقها الداخلية والخارجية للتأكد من النظافة وري الأشجار ، قبل مروري على مكتبي الشؤون التعليمية وشؤون الموظفين للاطلاع على قائمتي التحضير الأكاديمي والإداري ؛ لمعرفة نسبة الحضور اليومي .... صعدت إلى مكتبي لأبدأ بالنظر في البريد اليومي ، ولما أكمل البريد بعد حتى سمعت من يطرق الباب ، أذنت له بالدخول ، وإذا به يبلغني أن هناك رجلا يدعي أنه قاض يريد مقابلتك ، قلت : دعه يدخل ، دخل وعلى الفور بادر قائلا : - بصوت مرتفع جدا - هذا الكرسي الذي أنت تقعد عليه أنا لا أقبله لهذا أخي ، وأشار بسبابته إلى الخلف وإذا بأحد الموظفين يقف خلفه ، ثم يسأل نفسه أتدري لماذا لا أقبله لأخي ؟ وأنا مازلت في حالة ذهول من صوته المرتفع الذي يسمعه حتى المارة خلف أسوار المؤسسة ، في هذه الأثناء يجيب على سؤاله بالقول ؛ لأننا من عائلة كلها وزراء وقضاة وغيرها من المناصب الكبيرة إلا أن أخي هذا تسرب من المدرسة ولم يكمل تعليمه لهذا أصبح ضمن الموظفين في هذه المؤسسة .... وصوته مازال بذلك الصخب العالي ، الذي لا أستطيع وصفه - إذا جاز لي التعبير - إلا بالأنكر من صوت ...... ثم عاد يسألني ، أعلمت من نحن ؟ وقبل أن أجيب قال : لذلك كيف تجرأت أن تخصم من راتب أخي أجر بضعة أيام غابها ؟ قلت : إن غياب أخيك قد تجاوز بضعة أشهر ، وماطاله من عقاب إلا رسالة إنذار لكي يقوم بعمله أسوة بغيره من الموظفين ، وقد حضر في هذه الأثناء أحد النواب ورئيس النقابة وعضو هيئة تدريس ، حاولوا أن يقنعوه بأن أخاه قد شمله الخصم الرمزي ضمن قائمة من الموظفين الذين لايقومون بأعمالهم ولايؤدون واجبهم ، فكيف تريد من رئيسه في العمل أن يستثنيه ؟؟؟ لكنه لم يسمع من أحد ، وأخذ شيئا من الأوراق المالية وقدمها لأخيه قائلا : هذا ماتم خصمه من راتبك نظير غيابك ، وأنا سوف يعلم الحاضرون كيف سأقلب الدنيا أعلاها على أسفلها ، وانطلق يهدد ويتوعد ..... وهنا بقيت أحدث نفسي ضاحكا أحيانا وحزينا في أحايين أخرى.... وأقول إن من يريد أن يصلح أو يصحح في هذا المجتمع الفاسد لاشك أنه سيصطدم بكثير من العقبات والجدران الخرصانية ، وهذا أمر لم يكن غريب عليك ، فالذي طال أنبياء الله ورسله من الإساءة والشتيمة والأذى أظن أنه أكبر مما يتخيله العقل ، ومع ذلك كله صبروا فانتصروا وصنعوا نماذج راقية من تلك المجتمعات الفاسدة ، لكن ما استوقفني وأصابني بالصدمة أن يحدث ذلك السلوك الهابط من شخص يزعم أنه قاض ، مع أنني لم ألمس في شخصه شيئا من علامات القضاء !!! ومع ذلك فإنني لم أعره شيئا من الاهتمام ولست ممن يرضخ للابتزاز ، وسأظل حاملا لواء التصحيح ، محاربا الفساد ماحييت ؛ لأنني نشأت في ذلك وكبرت عليه ، ابتداء من المنزل ثم المدرسة وصولا إلى الجامعة ، ورحم الله الشاعر إذ قال :
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا ** فما حيلة المضطر إلا ركوبها