قبل أن يصعد المُسافر إلى الطائرة، هل ياترى سُيفكر بدين أو بمذهب أو كابتن الطائرة؟
هل سيهتم إن كان مسلما أو مسيحيا، أو أنه يُصلي أم لا؟
هل سيستفسر إن كان يحفظ شيئ من القرآن والأحاديث النبوية؟
هل سيسأل عن جنسه أو لونه أو طوله، أو وزنه؟
بالطبع لا.
سيهتم المسافر فقط بكفاءة وقدرات الكابتن، وبخبرته في قيادة الطائرة، فهذا مايهمه؛ أما دينه ومذهبه وشعائره ومعتقداته وحزبه، ولونه وجنسه وطوله ووزنه، فأشياء خاصة تخص الطيار لا الركاب.
كذلك لن نجد شخص سوي يهتم بأديان وبمذاهب ومعتقدات الأطباء ومدراء البنوك ورؤساء الجامعات، وسائقي القطارات، وموظفي المطاعم، وأطباء المستشفيات وكوادر المصانع وعمال المتاجر...الخ.
وهكذا هي الدول؛ فوظيفة الحكومات كوظيفة الطيار، تنحصر فقط في إدارة مؤسسات الدولة، وفي توفير احتياجات الناس ( الركاب) في الدنيا لا في الآخرة، وفي توفير الخدمات والعيش الكريم لهم، لا في الدفع بهم إلى المساجد أو إلى الكنائس؛ أو الانشغال بكيفية إدخالهم الجنة.
الدولة كالمظلة، يحتمي تحتها كل أفراد المجتمع، بمختلف توجهاتهم، الدينية والمذهبية والفكرية والسياسية والثقافية والإثنية والسلوكية؛ وتُدار بقوانين وأنظمة ولوائح، تُناسب زمان ومكان وحاجات واحتياجات وتطلعات وعادات وثقافات الناس.
بالمقابل لكل طائفة دينية أو مذهبية أو سياسية أو ثقافية، أو حتى رياضية، الحق في ممارسة _أو الدعوة لها_ معتقداتها، بحرية دون المساس بحريات وأمن وسكينة المجتمع، وتُمارس شعائرها بعيداً عن مؤسسات الدولة وأجهزتها (كابينة الطائرة)؛ ولا يجوز لطائفة ما جماعة فرض معتقداتها وقناعاتها على الآخرين بالقوة والإكراه.
ما نعيشه اليوم في المنطقة العربية من تخلف وتخبط وفوضى وحروب واقتتال وسفك دماء واِنعدام للأمن والاِستقرار هو نتيجة منطقية وطبيعية لإِقحام الأديان وتوظيف المذاهب في التجاذبات السياسية، وفي الصراعات على السلطة والثروة. والمكانة الاجتماعية.
أصبحت وظيفة "عالم دين" وظيفة مطاطية، غير معروفة الحدود والمهام والواجبات والاختصاصات، ويخرج من تحت عباءتها وعمامتها كل ما ليس له صله بالدين وله صله بخراب الأوطان، وبتعطيل الحكومات، وتلغيم المجتمعات .
أُتخذ من الدين والمذهب والقرابة من النبي، وسائل سهلة لخداع الناس وسرقة أمتعتهم، وتحشيد الأتباع، وقنوات سريعة للوصول إلى السلطة والمال والمكانة الاجتماعية والثراء، بدون عناء أو كفاءة معرفية أو علمية.
ولا توجد تجارة رائجة تُدر المليارات كركوب موجة الدين ولبس العمائم، أو اِدعاء القرابة من النبي.
عندما نُطالع يومنا هذا في خارطة الدول التي ترزح تحت أثقال الفقر والجوع والمرض والتخلف والصراعات والحروب والتشرد والضياع، سنجد أنها دول تُدار بما يسمى بالمراجع والمرجعيات والسادة والآيات والآل والمشائخ والوعاظ والكهنة. فهؤلاء هم من يقودون الجهل والعبث والخراب في تلك الدول، والسبب ليس خللاً في الدين وإنما في فهم وممارسة وأهداف المتاجرون به، والمستثمرون به لتحقيق مصالح خاصةن وفي توظيفة لغابات غير سوية.
الدول التي تنعم بالأمن والأمان والاِستقرار والتنمية، هي تلك التي تُدار برجال سياسة وبكفاءات إدارية وبدساتير وأنظمة دنيوية، ولا وجود لعمائم تنطلق من المساجد إلى كراسي الوزارات وإلى مقاعد البرلمانات، وبتصاريح وشهادات ومؤهلات، عالم دين، علامة، حافظ للقرآن، خطيب مسجد، مجاهد، هاشمي، علوي، علم، سيد..الخ.
أخي وصديقي وشيخي:
لك الحق أن تتدين، وتتمذهب، وتتحزب، وتتشيع، وتتسنن، وتتسلفن، وحتى أن تكفر، أو تلحد، فقط أعمل ومارس واختار ما تراه مناسبًا لك ولأهلك، بشرط أن تمارس معتقداتك بهدوء، وادع لمعتقدك ـ إن شئت ـ بالحُسنى وبعيداً عن الإكراه وعن مؤسسات الدولة ومعسكراتها وبنوكها، وأترك الناس يمارسون حياتهم اليومية بالطرائق التي يرونها وبفضلونها.