رحم الله ياسين محمود علي حسين، إبن عدن البار و الوكيل وكبير المهندسين في قطاع الاتصالات، ورائده، ومخزن معلوماته، هذا القطاع الذي يمثل روح العصر، ومنطلق التحديث والبناء في أي دولة، والمورد الهام، ومجال المنافسة، بل والصراع القوي للاستحواذ على قدراته اللامحدودة، في المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وياسين محمود مهني محترف، لا يظهر إذا ما تزاحم السياسيون، لكنه يبرز عند الاختصاص، وهو مضرب المثل والقدوة، إداري كفوء بحكم التأهيل العالي التخصصي والخبرة، ورجل مالي وفني من الطراز الأول وفني مخضرم لجمعه خبرات ما قبل الوحدة وخبرات ما بعد الوحدة التي امتدت سنوات طويلة. إنه من نوعيات متطلعة وخبيرة من كوادر الجنوب الذين وفدوا (نقلوا) إلى صنعاء للمساهمة في بناء دولة الوحدة.
كانت تنتظرني مهمات صعبة في وزارة الاتصالات التي كانت وزارة مؤتمرية في حكومة الوفاق الوطني التي ترأسها أستاذنا محمد سالم باسندوة، فأنا وافد جديد على هذا القطاع ولا صلة لي به سابقة، ولكنني وجدت العون من ياسين ومن زملائه في الوزارة وهم كثيرون، أكتفي بالإشارة إلى مواقعهم فقط في المؤسسة العامة وشركة تيليمن وشركة يمن موبايل، والهيئة العامة للبريد. كان الرجل زاهدًا وورعًا، ونظيف اليد رغم كل الإغراءات وهي كثيرة في هذا القطاع لسعته وحجم تعاملاته الإيرادية الكبيرة وشمولها.
بعد أيام لم تطل كثيرًا رأيت في الوكيل العدني، ذو الطباع الرائعة، والفهم العميق للقطاع خير معين، فطلبت منه أن يتولى كل الشؤون الفنية والإدارية والمالية، مكتفيًا بالإدارة العامة للقطاع، لقد منحنا المدراء صلاحيات أوسع، خففنا من المركزية الشديدة، فقبل المهمة هو وزملائه قادة مؤسسات الاتصال، وأنجزوا ما كان ينبغي عليهم إنجازة في تعاون مسؤول ومستمر.
ومعًا انجزنا الكثير، من التحديث، ومواجهة المتطلبات المتسارعة من الخدمات، وأنقذنا القطاع من تأثير الصراع السياسي وسوء حال كان ينتظره، حال كانت تعبر عنه إضرابات واحتجاجات العمال الحادة وتخييماتهم في الأيام الأولى لتولي المهمة، رغم ما بذلوه زملائي السابقين من جهد كبير في المؤسسة.
لقد عززنا قدرات القطاع بإمكانيات إضافية بذلنا جهدنا لتحسين خدمات الاتصال والبريد. في كل فروع التراسل، وفي الإنترنت ربطنا اليمن بكابلين بحريين جديدين، أحدهما في الحديدة والآخر في عدن، كانت تلك مهمة زملائي في تيليمن، وبكلفة اجمالية بلغت تسعون مليون دولار على ما أذكر، وعززنا من قدرات كابلين قديمين في المدينتين، كمداخل مهمة.
ورغم الأزمة السياسية، عملنا على زيادة إيرادات القطاع، وتطوير علاقاته الفنية والمالية بالجوار الأخوي كمصدر مهم وأساسي للايرادات لوجود المغتربين هناك. لقد جعلنا لمصطلح الاتصالات وتقنية المعلوما قيمة أفضل في بلد يتلمس طريقه للاستقرار.
تغلبنا معًا على الصعوبات، وأقنعنا العمال بالعودة للعمل، ومنحنا الحقوق لأهلها، في المؤسسة وفي تليمن التي ظلت قضاياهم معلقة بين القضاء والوساطة ثمانية أعوام، لم نقصي أحدًا من الكوادر الوطنية، اكتفينا فقط بتدوير الوظائف في المراتب العليا، وتصعيد بعض الشباب إلى مناصب أعلى، بعد ذلك أصبحوا قادة، فاستقرت الأمور، وأخذ القطاع يواصل طريقه للنجاح، في ظروف كانت الدولة تترنح بين السقوط والبقاء.
كان فقيدنا حريصًا على حقوق الدولة ومواردها، وقطاع الاتصالات فرعًا رئيسيًا من فروعها الإيرادية، وكان طبيعي أن يتفق أو يختلف مع من يعملون معه في هذا القطاع أو من يتعاملون معه، لكنه اختلاف يتسم بالمسؤولية، فالرجل كان يتزود بالحجة والمنطق والثبات في الحق، ويستخدم لغة راقية، ولديه سعة بال ساعدته على القيادة، في حضور الوزير وفي غيابه، وكان القادة الآخرون في القطاع الذين أحتفظ لهم بود كبير بذات المستوى، ويبادلونه الود بالود.
ذاك لمن لم يعرفه ياسين محمود علي حسين إبن عدن، وإبن اليمن البار، وخبيرها ومرجعها الاتصالاتي الأول، ذاك هو من تدرب وتخرج على يدية المئات من اليمنيين في هذا القطاع، ومن مثل اليمن في العديد من الفعاليات الإقليمية والدولية، اختار فقيدنا فقيد اليمن، الابتعاد في السنوات الأخيرة عن العمل وألح على التقاعد، فقد تغيرت من وجهة نظره بيئة العمل، رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار، إنا لله وإنا إليه راجعون.