الغضب الذي يجتاح المجتمعات الاسلامية عند كل إساءة يتعرض لها النبي محمد عليه الصلاة والسلام يجب أن لا يهمل معه البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا النوع من الاساءات التي تطال هذه الشخصية العظيمة والتي تسكن ضمير ووجدان مليارات المسلمين منذ الرسالة وحتى اليوم .
لا بد أن هناك دوافع وأسباب تنشأ وتتجدد على نحو دوري ، يقف في صدارتها المتطرفون من المسلمين ممن لا وظيفة لهم غير إفساد علاقة الاسلام بأمم الأرض من خلال محاولتهم فرض نسختهم التي يشهرونها في وجه الاسلام نفسه ، والتي لا يرون فيها الاسلام غير دين يمتشق سيفاً يقتل ويبطش بكل من يعارض نسختهم ، سواءً كان مسلماً أو غير مسلم .
التطرف في الجانب الآخر مصر هو أيضاً على أن لا يرى الاسلام غير في هذه النسخة الكئيبة التي يسهل عليه تسويقها في مجتمعه بهدف خلق بيئة آمنة تحتضن تطرفه وإساءاته .
الدين جزء أساسي من شخصية أي أمة من أمم هذه الأرض ، بل ومكون لا يقل أهمية عن العرق والدم والثقافة والتاريخ والارض والقانون ، والاساءة إليه أو إلى الأنبياء والرسل الذين حملوه والآلهة التي يجسدها يجرح هذه الأمة في كرامتها ، والمتطرفون وحدهم من يقفز فوق هذه الحقيقة ليحولوا الاديان إلى ساحة صراع بدلاً من أن تكون ساحة للتواصل والتفاهم البشري .. جعلوا منها أيديولوجيات متناحرة تقفز فوق القيمة الايمانية التي تشعل الروح بمعنى الانسانية والوجود البشري فوق هذا الكوكب القابل للدمار بفعل حماقة الانسان الذي هذبته الأديان وجعلت منه عامراً لا مدمراً وخليفة لا عابر سبيل .
قوة الدين هي فيما يحتويه من قيم انسانية قبل الإيمانية ، ولذلك حرصت الأديان أن يكون الانسان هدفها الأول فيما يتعلق بحياته وحريته وكرامته وامنه وأمانه ، وبالنسبة للاسلام جاء في القرآن الكريم ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ، ورزقناهم من الطيبات ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) ، لم يقتصر التكريم أو التفصيل والرزق على المسلمين ، وإنما شمل البشرية جمعاء في صيغة تتجاوز كل جدل بأفضلية جنس أو عرق أو دين . هذا هو ديننا الاسلامي الجامع الذي يحاول التطرف تقزيمه على مقاس نسختهم التي تسيء إليه وإلى هذه الأمة التي جعلها الله وسطاً
لتكون شهداء على الناس .
الاسلام لديه القوة الذاتية الكامنة القادرة على الدفاع عن قيمه دون حاجة للحكام الذين نهبوا الشعوب ، ولا لأولئك الذين جندوا العامة لمصالحهم ووظفوا النص لحاجتهم . ألف واربعمائة عام والاسلام يحمي نفسة ويتجدد بقوة قيمه لا بقوة حكامه ومتنفذي أحكامه من الأدعياء ، وفي حين باعه المترفون ، فقد حافظ عليه الفقراء الذين وجدوا فيه ملاذهم الانساني والايماني في التمسك بقيم الدنيا والدين معاً في ترابط لا يكدره سوى أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أوصياء للتوسط بين الانسان وربه ، واعطوا لأنفسهم الحق في التوغل في ضمير الانسان لرصد إيمانه والحكم عليه في تكرار ممل لتجارب تاريخية في محطات مختلفة دمرت العلاقات الانسانية باسم الدين كما حدث في الاندلس وفلسطين ، ودمرت معها القيم الدينية لصالح السياسة ، وهكذا يحرص المتطرفون في كل الأديان وفي كل زمان ومكان على تبرئة التطرف القادم من الطرف الآخر ، وكأنهم إنما وجدوا لخدمة بعضهم في مواجهة قيم التعايش والحياة المشتركة .
كل منتسب إلى دين بعينه من حقه أن يسوق دينه للناس ، ولكن دون الاساءة إلى الأديان الأخرى .. ويقدم الاسلام نموذجاً لهذا الأمر في أنه لا يسيء إلى الانبياء كما يحدث من قبل الآخرين ، لكن المتطرفين الاسلاميين يجدون طرقاً أخرى للاساءة يدفعون بواسطتها الآخرين إلى الاساءة الى الاسلام .
وفي حين يجب الانتباه إلى أن الدين ليس برنامجاً انتخابياً يمكن تسويقه من خلال تشويه برنامج الخصم ، فالدين لا يمكن نشره من خلال تشويه الآخر وإنما من خلال إبراز قيمه دون التعرض بالتجريح أو التشويه للأديان الأخرى ، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة المباشرة مع الناس الذين يتعرضون للخديعة بالكلمة المنمقة دون اختبارها بالفعل . إبراز الأفضليات مسألة جدلية مكانها مراكز البحث حيث يصبح الجدل ذا معنى في إثراء المعرفة دون المبالغة في العمل على تغيير الآخر .
في محيطنا الاسلامي عمل البعض على احتكار النبي محمد بداعي العصبية العرقية ، وأرهقونا وأرهقوا الاسلام بدعاوى حقهم في الحكم ، وعملوا بكل قوة على ربط سلوكهم الخاطئ بهذا الانتماء المشبوه ، ولو لم نكن على ثقة بأن محمداً صاحب رسالة تتجاوز هذه الدعاوى التي تختزل الاسلام في مجموعة عرقية لتحول الموقف من مواجهة هذه الجماعة المشبوهة إلى مواجهات أخرى تعمل هذه الجماعة بكل قوة إلى جرنا إليها .
في هذه الجزئية من الحكاية الكبيرة يمكننا أن نقرأ المشهد بعناية أكبر لنعرف كيف يوظف هذا الاسم العظيم لمصالح دنيوية صغيرة لا علاقة لها بالايمان