لتبكي تجول فقط في تعز
بداية التحرير الأعلى كان ثمة كشك صغير ومرتب يبيع الكتب الزهيدة والقيمة والصحف والمجلات المصورة وأعداد العربي الكبير والصغير والمثقف والعاب الذكاء والكتيبات المتهالكة وكنت أجمع مصروفي في البلاد وأخذ من عمي في تعز لأمنحها البائع مقابل الكتب
في جولة سكاي نت بالتحرير الأسفل كان الكشك الثاني، يبيع الكتب، وما لا أجده في الكشك الأعلى أحصل عليه بالأسفل ..!
قضيت كل سنواتي بين الكشك الأعلى والأسفل،أحدهما اسمه كشك النصر، ولا أدري أهو الأعلى أو الاسفل،فهما على حالهما دون الكتب،
مكبات قمامة
بيع خرداوات
ولكنني لا أنسى أنني أشتريت جمهرة انساب العرب من الكشك الأعلى وأنني أشتريت كل أعداد مجلة العربي من الكشك الأسفل، لا أنسى،
كان العائد من تعز الى الريف يحمل الهدايا والفواكه والألعاب وكنت أخيب ظن أقراني وعائلتي فأنا صغير العائلة وأعود بكيس مليء بالكتب والمجلات ولا تهم أحد، عداي أنا
في السعيد، مكتبة السعيد، بالشعب، دخلت لأول مرة كي اقرأ مع ابن عمي عماد، تركني وذهب جامعته، والذي أول ما فعلته اثناء دخولي الحرم الأول للمكتبة فتحت صناديق الأحذية لأحصل على كتاب فضحك مني عماد وقال : ضع حذاءك هنا فالكتب في الأعلى
لم أتخيل كل ذلك العز للكتب، صعدت وقرأت ببطاقة ابن عمي الذي عاد إلي في العصر عقب خروجه من الجامعة واستغرب كيف أنني لم أجوع ولا يعلم أن من يقرأ لا يشعر بالجوع ومنه عرفت ان القاعد منذ ساعات ويقرأ وتبان عليه الأبهة شوقي احمد هائل سعيد، أنذهلت!.
نحن نسمع ببيت هائل، ننطقها للمقاربة، عندما يقول لك صديقك أن حذاؤه بعشرة ألف ريال فتقول له : لو انك بن هائل سعيد ما أشتريته بذا المبلغ،
نتحدث ونقول لو معنا أموال هائل سعيد كنا وكنا ومن هذه المقاربات وفن ضرب الأمثال والمبالغات التي عشناها في طفولتنا !
لكن أذهلني ان هذا الرجل شوقي هائل سعيد الذي يقف قبالتي يقرأ ولا يلتفت اليه أحد وهو الذي يمكن للعالم ان يأتي الى بين يديه،الله!
الآن، أحترقت مكتبة السعيد، وصناديق الأحذية، لا توجد مكتبة في تعز ولا يوجد في تعز كشك يبيع الكتب، لكم أن تتخيلوا هذه!
عاد نواف من المدينة بنظارة وكرة ومضيئة واشياء محببة وطفولية وعدت من المدينة بمناظرة تودد الجارية في بلاط هارون الرشيد،
عاد قريني الثاني بمشط ودهن وعدت بقصة سندريلا والملك عادل، والمثقف الصغير ،
أعترف أنني خسرت طفولتي، كان عماد هو منير دربي، أهداني كتاب احجار على رقعة الشطرنج وأنا صغير، ولا أنسى أنس القاضي وقد فرقت بيننا السبل والأراء لقد قاسمني وقاسمته كتبي، قرأنا لبعض ومع بعض وعن بعض،وهو الآن كهنوتي أكثر من الكهنوت وانا برأيي الذي تعرفون، ولا زلت احبه، كان لأنس مستقبل باهر في الرسم، احتفظ ببعض رسوماته لدي في البلاد، كان شاعر وراسم وكاتب مجيد، إنقطعنا بسبب الحرب والأراء !
تذكرني تعز بكل شيء، بصاحب الكشك الذي لم يفرك بي مرة واحدة وأعود اليه من البلاد بعد شهر أو شهران او ثلاثة وهو يحتفظ لي بأجمل القصص والحكايات وأولهن اعداد مجلة العربي الكويتية ، الكبير والصغير، وأدفع له وأمضي، وكان جهاز عماد المكتبي طريقتي الثانية للقراءة والمشاهدة، عماد رجل ذكي وقارئ ومطلع والمعرفة تتوزع بين دولابه وطيقان بيته وحاسوبه، وكنت أحوز الجهاز ساعاتي الطويلة والجهاز بتلك الأيام غالي وثمين، وقليل الوجود، ويريد شقيقه احمد اللعب،لعبة الدبابة، فيما كنت اقرأ، يهبط من الأعلى الى عند أمه في الدور الأسفل ويقول لها : الجهاز حامي نار قدهو شقرح، تطفئ عمتي الكهرباء من تحت، وان عادت فالرمز السري ليس معنا، أشتم أحمد بكل شيء،وغد.
إن اكثر شيء يمكنني تذكره في تعز هو الكشك،كشكان، ومكتبة السعيد، وعماد،وأنس وأحمد وأشرف، وعمي الشيخ الذي يجد أمامه بعض كتبي فيقرأ واشعر بالغبطة، غبطة أن الشيخ يعجبه ما اقرأ طالما يقرأ من الكتب،إن اجمل شيء يمكنني تخيله عن تعز تلك اللحظة عندما اعود من الشارع ومعي كتاب وانبطح على مجلس عمي واقرأ، تأتي الغداء وتبرد وانا اقرأ، العصر وانا اقرأ وأنتظر الى الثامنة مساء وأشاهد حلقات بقعة ضوء ومرايا السوريتان
حتى الدراما كانت عظيمة، التلفاز كان مفيداً.
أين انا الآن؟
لا شيء أعرفه، لقد تغير كل شيء، الناس والقربى والاصدقاء وللذكريات لون الأدخنة
لا كتب ولا اكشاك ولا ارصفة جميلة ولا اهل ولا عمات ولا جدتي ولا أعمام ولا انس ولا عماد ولا احمد ولا أشرف، كل شيء غادرني
الحارة التي عشت فيها نصفها الأول غادر والنصف الآخر قٌتِل، والجزء القليل الذي اعرفه سورت بيننا الحرب والأراء والانتماءات ولا يعرفك هنا احد، كل شيء بلون الدم والخلف