عندما تموت البلاد يموت معها أروع أبنائها ،
والأصل في هذا الموت هو الشعور بالقهر المميت .. قهر بلاد وتعذيب شعب.
إنّ أوّل ما يذبُل ويتهاوى من الشجرة ورودُها الحسّاسة وزهورُها .. وزهور أي شعبٍ مقهور هي أدباؤه وشعراؤه وفنانوه وعلماؤه ، .. لذلك ، كان لابد أن يذبُلَ قلب وليد دمّاج الشاعر والروائي الحسّاس وأن يتوقف قبل الأوان.
ثمّة حكاية لا تعرفونها أزعم أنها تلخّص جزءًا مهماً من ملامح وشخصية الراحل الجميل النادر وليد دمّاج رحمة الله تغشاه
وكانت هذه الحكاية سبباً رئيسياً في علاقة صداقة عميقة بدأت معه منذ أكثر من عشرين عاماً!
في مطلع الألفية الجديدة رأيت وليد دمّاج لأول مرة وكنتُ في مكتبي في الهيئة العامة للكتاب.
وصل إلي الشاب فارع الطول زائراً بمذكرة رسمية في مهمة تفتيش دورية من جهاز الرقابة والمحاسبة .. ووجّهتُ بتسهيل مهمته وفتح كل سجلات نشاط الهيئة أمامه.
بعد أيام دخل إلي طالباً السفر معي بعد أن عرف بأني سأسافر في اليوم التالي إلى مدينة جبلة في محافظة إب لمعاينة موقعٍ مقترح لبناء مكتبة للمدينة وافتتاح مكتبة مؤقتة للشباب تم إعدادها وترتيبها.
قال لي أن قريته قريبة من جبلة وأنه سعيدٌ بمرافقتنا .. فرحّبت .. وكان أن سافرنا في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي إلى مدينة جِبلة التاريخية الساحرة في محافظة إب. كان معي وكيل الهيئة ومدير المكتبات ومدير مكتبي والسائق .. والرائع الفقيد وليد دمّاج.
عدنا من جبلة وتغدينا معاً في مدينة إب قبل أن نودّع وليد ليذهب لقريته القريبة ونبدأ نحن في سفر العودة إلى صنعاء.
أذكر هنا هذه التفاصيل لأنها جزءٌ مهم من الحكاية كما ستعرف حالاً!
بعد أشهُر وصلني التقرير الرسمي المُرسَل من جهاز الرقابة والمحاسبة والموقّع من رئيس الجهاز عن نشاط الهيئة ، وكنتُ أعرف أن وليد كتبه من ألِفه إلى يائه ، وهو عبارة عن ملاحظات على تجاوزات وتساؤلات وتصويبات يجب العمل بها والرد عليها.
قرأت التقرير وانتبهت لملاحظة وردت في التقرير عن افتتاح ورحلة مكتبة جبلة!
تقول الملاحظة أنه تم التجاوز بمبلغ عشرة آلاف ريال لما تم صرفه في الرحلة!
شعرت بالغضب والعتَب على وليد!
طلبته وجاء إلى مكتبي .. قلت له:
بالله عليك صرفنا كوفد وبنزين وغداء حوالي ثلاثين ألف ريال فقط وعادك تكتب في التقرير تجاوزتم بعشرة آلاف ريال!
ثم قلت له ضاحكاً .. كنت ستجاملني يا أخي .. أنت بنفسك تغديت معانا وشفت المطعم الزفت اللي أكلنا فيه هههههه
أجابني بهدوء وثقة:
يا أستاذ خالد .. هذا هو القانون!
القانون فوق صداقتي لك ومحبتي.
أجبته ساخراً : البلد كلها فساد بالملايين وجاي تحاسبني على عشرة ألف وتكتبها في التقرير!
ومرةً أخرى أجابني بهدوء .. القانون فوق كل شيء يا أستاذ خالد!
مِن تلك اللحظة عرفتُ كُنْهَ ذلك الشاب فارع الطول مهيب الطلعة وروعة إخلاصه .. وسبَرتُ شخصيته وإتقانه لعمله ودقّته وثقته بنفسه!
بعد سنتين تم تعييني وزيراً للثقافة والسياحة ، وكان أول ما خطر على بالي ذلك الشاب الرائع فارع الطول الموظف في جهاز الرقابة والمحاسبة .. وليد دماج!
وأعلنت للجميع .. أريد وليد مراقباً ومحاسباً في مكتبي! فلا يدخل إليّ شيكٌ أو ملفٌ إلاّ عبره!
استغرب كثيرون متسائلين ..تأتي بموظف من جهاز الرقابة والمحاسبة في مكتبك!
أجبتهم : نعم .. سأفعل ذلك لأني خالد الرويشان ولأنه وليد دمّاج!
بعدها بأشهُر كلّفتهُ بإدارة فعاليات صنعاء عاصمة للثقافة العربية 2004
وبعد انتهاء السنة التي كانت حديث العالم العربي كلّفتهُ بإدارة صندوق التراث بالوزارة.
ربما أكون قد أطلت! ولكنها حكايةٌ كان يجب أن تُروى .. وللأسف أنني لم أجد الفرصة إلا في هذا اليوم الحزين بعد رحيله.
خالص التعازي لأولاده وإخوانه ولآل دمّاج جميعاً ..
ولكن اسمحوا لي بأن أخص بتعزيتي الدامعة أخي وصديقي مطيع أحمد قاسم دماج وأخاه الرائع النادر إياد أحمد قاسم دمّاج
كان وليد يحب مطيعاً بلا حدود
وأكاد لا أعرف حباً بين أولاد عم كذلك الحب! .. لذلك سأقول .. صبراً يا مطيع العزيز! .. الحزنُ يُقلِقُ والتّجمُلُ يَردَعُ
والدّمعُ بينهُما عَصِيٌ طَيّعُ