أنا مجرد طفل، مجرد هاوٍ للدراما .. عشت على أدبيات الدراما السورية،وكان حاتم علي ملهمي، وملهم الناس أجمعين، كنت أشاهد التغريبة وأبكي والمشهد الدرامي الذي ينقل مأساة الشعوب ولا يدر فيك الدمع أو يبكيك مشهداً ميتاً لا داعٍ لنشره وميزة مسلسلات حاتم علي أن كل مشهد حيٌ وكأنه الحقيقة، كل مشهد حركته نابعة من العمق القصصي فلم يحكٍ قصة بل أعاد القصة فممدوح عدوان قد كتب مشهد الحارث ابن عباد وهو يبكي ولده، كتبه فقط، كتبه بجمود فقط، وحاتم علي أحياه كونه المخرج، بإخراج حاتم علي تحول المشهد الباكي لمشهد تقشعر منه الأبدان وأجمعكم قد شاهد الحارث بن عباد وهو يؤدي دوره خالد تاجا صائحاً : لأقتلن به عدد النجوم والحصى..
لو عاد الحارث حقيقة من بادية بكر ابن وائل لأستصغر نفسه أمام المشهد الذي أخرجه حاتم علي ولأنكر نفسه ولو عاد عبدالرحمن الداخل،صقر قريش، وشاهد رحلة الفرار من دمشق الى قرطبة في مسلسل ربيع قرطبة لصاح : والله لا أدري أهو أنا أم أنا هو، ورقص..
لو عاد المعتمد ابن عباد من مثواه وشاهد تيم حسن وهو يؤدي دوره في أغمات لأنشطر خوفاً وهو يرى مأساته تتكرر خشية أنها تعود حقيقة ويعانيها مرة أخرى ولو عاد عمر الفاروق لبكى وضرب بدرته حاتم علي وأنبه قائلاً : كيف لك أن تخلقنا من جديد، وكيف فعلت؟
لم نكن نعرف سلوم حداد، عرفناه بحاتم علي، واذا صادفته يوما ما بالشارع سأناديه : سالم .. توقف يا سالم .. وعابد فهد كلما رأيته في الشاشة يحجبه جساس عني، وقبل أشهر كنت أشاهد مسلسل لعبة الموت بطولة عابد فهد ولا أرى فيه الا جساس رغم الفوارق الكبيرة بين مسلسل قديم وحديث وبين لهجة فصيحة ولهجة لبنانية ولكنه جساس يطغى،حاتم علي يطغى عليه، وهو بقدر ما أنتج بمسلسلاته بطولات هؤلاء هو قام بقتلهم.. حاتم علي قام بقتل جمال سليمان وعابد فهد وسلوم حداد وتيم حسن وسلاف فواخرجي ومي سكاف وثلة التمثيل في مسلسلاته .. أنا لا أشاهد وأمقت كل الأدوار الجديدة لهؤلاء في مسلسلات الحداثة والعصر وكأن طوق حاتم علي طوقهم لنهاية حايتهم بأطواق أدوراهم تلك ولا يحق لهم بعدها أي بطولة ولا يمكن أن ينجزوا أي إنجاز ولا أن تشتهر شخصية لهم بعد شخصيته
وأما جمال سليمان فقد شاهدته في دور عصري وتنكرت له،هرعت مسرعاً كيلا أكمل المشهد .. أردت أن يبقى في خاطري صلاح الدين وأن يظل احمد ابو صالح بجلاله وأن يستمر الداخل والحكم وابن زيدون في مخيلتي فلا يمكن لي أن أتخيله ببدلة وربطة عنق وبملمح حديث وهو الحاكم الأنيق المزهنق بالفصحى في كل عصور الدراما النبيلة وهو التأريخ المنبثق من حطين وبين العدوتين وبقلب الزاهرة وعلى كتفيه أثر البواريد في معارك الانتفاضة بمدن الداخل المقدس وأربأ عليه أن أشاهده يشرب النسكافيه ويلبس قميصه بلون اللحظة
والى الآن،لم أشاهد جبل لتيم حسن، فهو ابن أبي عامر ومشهده مع ايرورا وهما يتحدثان في قصر الزهراء بقرطبة عن الحب يكفيه تأريخاً ولا يجب عليه أن يكون بعدها أي شخصية أخرى،ليبقى المنصور،فقط..
وهذا هو إعجاز حاتم علي، نجح في استحضار الشخصيات التأريخية،احضاراً كاملاً، وبماضٍ أضاع الحاضر .. ألغى شخصيات الممثلين وأستبدلها بشخصيات درامياته وقام بتحنيطهم وهم احياء ومات ولم بلغي بتعويذته طوق التأريخ الذي طوقهم به،مات وبقي الماضي والحاضر والمستقبل شاهداً على أقدس مخرج عرفناه ..لم يمت للحقيقة : غادر المشهد وفصله الآخير ليروي قصتنا للملائكة .
و
بعد عامين من موت حاتم علي لا زال الرجل حاضراً بكل تفاصيله ونراه كل لحظة ونشاهده كلما دخلنا اليوتيوب فصورته تتناقلها الصفحات والاسماء في السوشيال ميديا كأكثر الصور حضوراً بعد الموت وكأنه ليس مجرد مخرج وما أكثر هؤلاء بل زعيماً ثورياً ويشبه فلاسفة الدهر الأول وله حضور الذوات العظيمة ويتعالى حاتم علي لحظة لحظة ويتجدد فقلة في هذا العالم يتجددون،قلة فقط، وأحدهم حاتم علي وقد كان الموت لمثل حاتم علي ضرورة حتمية ليصبح ألمع وليؤثر بالناس أكثر وليعلم العالمين فنون الحياة أكثر مما تعلمهم المكتبات والبحوث والدراسات وبموته تنبه الناس للإرث الجليل الذي خلفه ووجد الجيل الجديد الذي لم يعاصر حاتم علي نفسه أمام ذاكرة اجتماعية وتأريخية بمهارة حاتم علي كمن وجد كنزاً في عز فقره وشاهد ينبوعاً في برية ماكرة فالدراما الحاتمية وحري بنا أن نطلق عليها الحاتمية تكريماً للرجل أعظم هدية يمكن أن تهديها لابناء هذا الجيل الغارق في التفاهة واذا أردت أن تنقذ أحدهم من عالم التفاهة وتنتشله من دنيا المحتوى السريع عليك أن تدله على الراحل حاتم وعبره، عبر حاتم علي، سيمر الى كل مكان وسيقطف الأدب والثقافة والتأريخ والفانتازيا والإجتماع والسياسة وسيعود اليك كاملاً مكملاً على جبينه صورة الأزمنة النبيلة وفي محياه عمق الفكر والفكرة ..
هذا صحيح، هو مجرد مخرج وهناك ألف مخرج يشتركون معه بالصفة لكنه وحده حاتم علي أكبرهم وأولهم وآخرهم فليس من المهم أن تصبح مخرجاً وأمامنا كم هائل من الدراميات وتتجاوز مئات الألاف ومع ذلك لا يتذكر الناس الا حاتم علي كإجابة قطعية على أن الأهم كيف تكون مخرجاً حقيقياً لا ينتج لأجل أن يربح كما الجميع بل لأجل أن يرتب عقليات الناس وأن يعيد صياغة الماضي استشرافاً للمستقبل ولذا أصبح حاتم علي وحده لا مثيل له بين المخرجين رغم كونهم أغنى منه وأثرى ولكنه أعمق منهم وأصح فهناك من يفعل ذلك لأجل نفسه ومن يفعلها لأجل الناس والناس وحدهم هم الرهان للحكم من الحقيق بالتميز والتجلة فكان حاتم علي محبوب الجماهير ومخرج العصور الى العلن وصانع الذاكرة البصرية الأولى في الوطن العربي
عامان من الفقد .. أتعثر كل ليلة بعشرات النصوص التي ترثيه الى اللحظة ولم يحدث أن عموم الناس يرثون مجرد مخرج عابر في أزقة الوقت كما حاتم علي وهذا الرثاء يحدث عادة للزعماء، أمثال جمال عبدالناصر وبومدين وصدام حسين بغض النظر عن رأي طائفة كبيرة من الناس بهؤلاء ولكن الزعماء الذين ذكرت تشترك عملية الرثاء الدائمة،من عموم الوطن العربي،في اعادة احياءهم كل لحظة وتكتمل هذه الاسماء بحاتم علي الذي وضع نفسه دون أن يدري بمصاف الطابور الأول وبصدر المكان وأحيطت به هالة حولته من مخرج الى رمز شعبي وهو حري بذلك وكم تمنيت لو أنه صار هذا البطل الشعبي للناس في حياته كرد للجميل ولتغرورق عيناه بالدمع وهو يشاهد الإمتنان العربي لشخصه ولينسى سنوات التشرد والمنافي وحرمانه من موطنه ولكننا نحن الشعب العربي نتذكر الكبار بعد موتهم ونكون قد نسينا حقوقهم وهم على قيد الحياة وننصف المبدعين بعد موتهم ..
ثلاثية الأندلس ليست المجد الوحيد للمخرج حاتم علي .. مسلسل الفاروق عمر ليس هو وحده ولا التغريبة الفلسطينية أو الزير سالم رغم كون هذه الدراميات عظيمات بحق وهن عنوانه ولكن ونحن نستلهم حاتم علي ونتذكره لا يجب أن نحصره بصلاح الدين الأيوبي فقط ولا أن نختصره بالرصافة المرصوفة من دمشق الى قرطبة بل ثمة دراما بإخراج حاتم علي تعيد رسم المجتمع وتدون التفاصيل الدقيقة في الحي والعائلة ومن فاته ولم يشاهد مسلسلي الفصول الأربعة وأحلام كبيرة لحاتم علي فقد فاته النصف الآخر والمشرق من العظيم حاتم علي وفي الفصول الأربعة يعيدك الوقت الى طينتك الأولى ويمنحك الدفء ويجعلك تتشبث بالعائلة وتعيد تقييم حياتك وتبحث بكل جد عن حنان ولمة الأهل وذلك المسلسل أستطيع أن أقول أنه حافظ من ظهوره الى اللحظة على قدسية القرابة ومعنى الأحاديث والكفاح والمثابرة فكل طالب شاهده صار متميزاً وكل عاق صار باراً بأهله وتجذرت معاني الأبوة والأمومة والأخوة وفي أحلام كبيرة الدروس المثلى لكل أب وأم ودنيا العلاقات وكيفية السير في سبيل الإنجاز
استقراء حياة حاتم علي ضرورة ملحة فبإمكان كل فرد أن يصبح جيشاً وكلٌ بمجاله ولتخدم بلدك وأمك الكبرى وقوميتك ليس عليك أن تكون حاكماً أو قائداً عاماً للجيوش بل ولو مجرد مخرج ففي كل حال مجالاً باذخاً للتفاني والخدمة وكل عمل لو أجدته هو صداً منيعاً عنك وعن قضيتك وبمشهد فقط مشهد لا أكثر تحصن أمة من شر الخضوع.
#عبدالسلام_القيسي